عرف التاريخ قادة وزعماء تولّوا مقاليد السلطة في سن مبكرة، وبعضهم نودي بهم ملوكاً وحكاماً وهم في مرحلة الطفولة. ويزخر الحاضر بشخصيات قيادية فتية تتولى مناصب رفيعة، تتحدث "إيلاف" عن أبرزها ضمن هذا الملف.

عايدة الحاج علي وزيرة في السويد، بعد 22 عامًا من قدومها إلى البلاد من البوسنة، حيث عاشت دمار الحرب هناك.

خاص إيلاف: فاجأت السويد العالم في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 بتعيين فتاة مسلمة، وصلت لاجئة إلى البلاد مع عائلتها البوسنية وهي بعمر 5 سنوات، وزيرة للتعليم ما قبل الجامعي ورفع الكفاءات. بعمر 27 عامًا فقط صارت الوزيرة عايدة الحاج علي أسطورة وملهمة للشباب والشابات اللاجئين إلى أوروبا.

دول الحروب

في خطاب ألقته في المؤتمر الثالث عشر لرابطة اتحاد التجارة الأوروبية في باريس بين 29 أيلول (سبتمبر) و2 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، توجهت عايدة الحاج علي إلى الحضور بالقول: "(...) أقف أمامكم ممثلة الحكومة السويدية، لكن حياتي بدأت وسط الحرب، الموت ومخيمات اللجوء، والخسارات. خسارة أقرباء وحياتي، تقريبًا. اسمحوا لي أن آخذكم معي لبعض الوقت في شريط ذكرياتي. أنا وزيرة سويدية ولكنني أيضًا ناجية من التطهير العرقي، بل المذبحة التي تعرضت لها البوسنة والهرسك. نجوت، في حين أن كثيرين غيري لم تتح لهم فرصة للنجاة . شعور مؤلم أن تدرك أنك نجوت في حين يعيش نحو 60 مليون إنسان اليوم (في بلدان الحروب مثل سوريا والعراق...) الظروف التي عشتها قبل نجاتي".

شباب يحكمون

&

أضافت: "وُلدت في مدينة فوكا، بلدة متوسطة الحجم في البوسنة، يوغوسلافيا سابقًا، شمال شرق ساراييفو، على مقربة من نهر درينا بمياهه الفيروزية والذي كاد أن يسمى لاحقًا نهر الدم. في ذاكرتي أني كنت طفلة بعمر خمس سنوات، أمسك بيد خالي وكنا نازلين عن جسر، كان الطقس ربيعًا وأنا آكل الآيس كريم مثل أولاد كثيرين. وفجأة التقينا رجلًا سأل خالي: "هل علمت بما يجري في كرواتيا؟ يبدو أن حربًا سوف تندلع؟". فأجابه خالي :" أعرف، ولكن ما زلت غير قادر على تصوّر أن حربًا سوف تنشب هنا".

أعطوني كل شيء

وتابعت الحاج علي: "أذكر كيف كنت واقفة أفكر كما تفكر ابنة خمس سنوات، كيف تكون الحرب، وما هي كرواتيا وما هو الـ"هنا"؟ ثم فكرت، إذا كان الكبار الناضجون يقولون إن كل شيء على ما يرام فهذا يعني أن كل شيء على ما يرام. لكن لم يكن أي شيء على ما يرام في الواقع. فجأة ظهر جنود في الشوارع، وأخذ أبي وأمي يتحدثان عن الهرب، لكننا لم نستطع الفرار فقد حوصرنا في منزلنا وتعذر علينا التوجه إلى أي مكان بسبب حظر التجول. وفي المنزل كانت الستائر مسدلة دومًا وكنا ننام على الأرض لتفادي الإصابة بطلقات نارية. وكان أهلي يقرأون لي كتابًا تلو كتاب، وسط كل ذلك أذكر أنني كنت خائفة وسعيدة في الوقت نفسه لأن أبي وأمي حاضران قربي ومن أجلي، وهما المحامي واختصاصية الإقتصاد اللذان كانا منشغلين ويعملان باستمرار سابقًا.

لا أدري كم بقينا على هذه الحال، لكن الوضع انقلب إلى الأسوأ يوم سمعنا قرعًا على الباب، ثم دخل جندي ملتحٍ ومدجج بالسلاح وأطلق النار في منزلنا ووجه سلاحه إلينا وصرخ في وجوهنا:" أعطوني كل شيء ذات قيمة عندكم واحزموا حقائبكم واشكروا ربكم أنني لم أقتلكم، الآن وهنا". ثم بدأ برمي أغراض منزلنا مفتشًا في الأدراج عن أي شيء ثمين، حين كان والداي يوضبان حقائب الرحيل مذعورين. وغادرنا منزلنا عابرين في ظلاله التي لن نعود إليها أبدًا".

وزيرة التعليم ما قبل الجامعي السويدية عايدة الحاج علي

&

السويد جنّتنا

بحسب الحاج علي، وصلت مع العائلة إلى مرفأ في جنوب السويد في ساعة متأخرة من ليل ماطر بعد سلسلة من العذابات والظروف الصعبة. صارت السويد جنة آمنة فور نزولهم في المرفأ. تقول: "لا أزال أذكر نقر المطر على جدران خيمة نُصبت لنا ملجأً موقتًا. أذكر أيضًا أنني للمرة الأولى بعد وقت استطعت النوم ولم أكن خائفة. وعندما أنظر اليوم إلى الخلف وأستعيد ذكرياتي تلك، وتواريخ آلاف وآلاف من البشر الذين عانوا ظروفًا مشابهة أو أسوأ، يخطر ببالي عنوان رواية النيجيري الفائز بجائزة نوبل تشينوا أتشيبي "عندما ينهار كل شيء". فيوغوسلافيا التي استضافت عام 1984 الألعاب الأولمبية في سراييفو ستعيش في حرب بعد سبع سنوات وتواجه أبشع الجرائم ضد الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. هذا ما يحصل عندما تتحكم قوى فاسدة في المجتمع: ينهار كل شيء. وعندما يسألني صحافي هذه الأيام "لماذا انخرطتِ في العمل السياسي؟" أجيبه ببساطة أنني، وجهًا لوجه، وبعينيّ، رأيت الشرّ، شرّ التعصب القومي الذي أجبرني مع عائلتي على ترك كل ما كان لنا، والذي أدى إلى الحرب والدمار، إلى المذبحة".

تضيف: "رأيت أيضًا أفضل ما في الجنس البشري منذ اليوم الذي فتحت فيه السويد أبوابها لي ولكثيرين غيري. بدايةً وأولًا من خلال تقديم ملجأ إلينا، ثم بمتابعة هذا الخط الإنساني من خلال إعطائنا فرصة لحياة جديدة مميّزة، مما يجعلني وكثيرين غيري في غاية الإمتنان. ولكن في اقتناعاتي وقيَمي كإنسانة أن السويد لم تمنحني أساسيات الحياة فحسب، مثل الحق العالمي في التعلم المجاني، والذي كان لي المفتاح لحياة أفضل، بل علّمتني أننا جميعًا ومعًا نخلق المجتمعات القوية والمزدهرة بصرف النظر عن خلفياتنا".

رد الجميل

في عام 1992، استقبلت السويد أكثر من 82 ألف لاجئ، بينهم كثيرون من البوسنة وأجزاء أخرى من يوغوسلافيا، كانت تمرّ بضائقة اقتصادية. كانت البطالة هائلة فيها والأزمة الإقتصادية تجتاحها. رغم ذلك، قال الشعب السويدي "أهلًا وسهلًا بكم". هذا التضامن هو ما جعلها تحب وطنها الجديد. وجعلها أيضًا تسعى كي تردّ إليه ما أعطاها مضاعفًا عشر المرات وأكثر.

اليوم، كيف هي أحوال السويد، بعد نحو عشرين سنة على استقبالها لاجئين كثيرين رغم أزمتها آنذاك؟ حققت البلاد نموًا أتاح لها أن تصير حاضنة لأحد أغنى الإقتصادات في العالم والأكثر قدرة على المنافسة. وحول السويديون الأزمة استقرارًا ماليًا ونموًا بينما استطعنا حماية أرواح عشرات آلاف المهددين في حياتهم. وزاد هذا الموقف إنتاجيتنا وجعل اقتصادنًا أكثر نموًا.

وبحسبها، إذا تمكنت السويد من فعل ما فعلت خلال أصعب أوقاتها في التسعينات، فأنا مقتنعة بأننا نستطيع تكرار ذلك خصوصًا إذا أقدمنا جميعًا، ومعًا".

الوزيرة الحاج علي خلف رئيس الوزراء لوفين لدى إعلان الحكومة

&

الوزيرة الأصغر في تاريخ "بلد الإنسانية"

عايدة الحاج علي أصغر وزيرة للتعليم في تاريخ السويد. درست القانون وتخرجت في جامعة لوند، انضمت إلى حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي، وشغلت فور تخرجها منصب نائبة عمدة مدينة هالمستاد السويدية، والتي تبعد نحو 500 كيلومتر عن العاصمة استوكهولم، وكانت في الثالثة والعشرين.

اشتهرت عايدة، العزباء وهاوية التصوير، بنشاطها التربوي والاجتماعي، حتى صنفتها مجلة Veckans Affarer الاقتصادية في السنة 2013 في المرتبة العاشرة ضمن قائمة أكثر 100 امرأة مميزة المواهب والطاقات.

في العام التالي، اختارها رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي ورئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين وزيرة للتعليم ما قبل الجامعي ورفع الكفاءات في حكومة مناصفة بين الرجال والنساء.
&

&