الرباط: بنسبة عالية تجاوزت الثمانين في المائة من العينة التي شاركت في استطلاع "إيلاف المغرب" تعتقد أن حملة المقاطعة الشعبية ضد ثلاث علامات تجارية ؛ يمكن من وجهة نظر المستطلعين، أن تؤثر إيجابا على محفظة الأسعار في المغرب في اتجاه انخفاضها.

ولأول مرة في تاريخ الاحتجاج الشعبي بالمغرب، يتحول المنخرطون في حملة المقاطعة التي لم تعد، مع مرور الأيام، مقصورة على شبكات التواصل الاجتماعي بل خرجت من غرف الدردشة الالكترونية ونزلت إلى الشوارع، مثلما انتقلت إلى الأحياء والأسواق الشعبية المنتشرة في جهات المغرب، فتحول المقاطعون إلى مشاركين في مناقشة الشأن الاقتصادي واستنكار منظومة غلاء الأسعار المؤدية إلى ارتفاع تكاليف المعيشة. يدلي المحتدون بأرقامهم وتقديراتهم التي يعتبرونها صحيحة، ولا يهمهم إن تعارضت أو اتفقت مع التحليلات الاقتصادية للمختصين والخبراء الذين يستندون على معطيات وأرقام وإحصائيات مرقمة.

ومنذ الشرارات الأولى لحملة المقاطعة، سرى الاعتقاد بين عدد من المغاربة أنها مجرد لحظة غضب عابرة، لن تستمر طويلا على غرار الكثير من الاحتجاجات السابقة التي قامت في وجه السلطات، للاعتراض أو رفض قرار يمس القدرة الشرائية للشريحة الأوسع من المغاربة ذوي الدخول المتدنية.

وخلافا لذلك التوقع، لم يستمر الاحتجاج فقط بل امتد مداه واتسع بشكل لافت حتى شمل مناطق المغرب كلها تقريبا بل اتخذ تعابير شتى من خلال توجيه المحتجين نقدا شديدا للأحزاب السياسية حد السخرية من قياداتها كونها عاجزة من وجهة نظرهم عن فرض موقفها على الحكومة، وبالتالي فهم يحملون الأحزاب مسؤولية التخلي عن دورها ووظيفتها في الدفاع عن مصالح المواطنين وحمايتهم من أي تعسف مادي أو معنوي.

المظهر الثاني الذي تجلى فيه البعد السياسي لحملة المقاطعة، يتمثل في ردود فعل الأحزاب السياسية نفسها إذ أدركت متأخرة خطأها أو تقاعسها فأضحت تتسابق فيما بينها، من الغالبية والمعارضة، لتسجيل المواقف المنتقدة بل المنددة بسياسات الحكومة العاجزة عن التصدي للجماعات المتحكمة في فرض الأسعار دون حسيب أو رقيب، في غياب تام للجهة الموكول اليها المراقبة والتقنين أي هيئة المنافسة،وهي ذات صفة دستورية،ما زالت مكاتبها خاوية دون أية فعالية بالنظر إلى الفراغ القانوني الذي ينظم عملها وعدم اكتمال التعيينات في هيئتها المقررة.

ولا تتوخى قراءة استطلاع "إيلاف المغرب" تقييم مواقف الأطراف الشعبية والحزبية المعنية بحملة المقاطعة أوالحكم علي مواقفها بالسلب أو الإيجاب.فما تعكسه نتيجة الاستطلاع يتجلى في المقام الأول في " الدينامية" الجديدة التي بدأت تسري في أوصال المجتمع المغربي، حيث يستغل المحتجون والمقاطعون أجواء الحرية التي تتيح لهم توجيه النقد للمسؤولين ومساءلتهم، دون الخوف من أن يطاولهم إجراء عقابي، مادام احتجاجهم لا يخرج عن النطاق الذي يسمح به القانون. وهدا في حد ذاته تطور إيجابي.

واللافت للنظر كذلك أن عموم المحتجين، كما يبدو من بعض التظاهرات، يرفعون شعارات التظلم،مناشدين العاهل المغربي لكي يتدخل لإنصافهم باعتباره الضامن للاستقرار وحامي المواطنين من طغيان "لوبيات" الفساد وتجار الريع، الذين يهددون الأمن المعيشي للفئات المستضعفة وبالتالي استقرار البلاد.

لكن الملاحظ، وبصرف النظر عن الطابع الاقتصادي المحض، أن المقاطعة الشعبية بدأت تمتزج أو تتلون بالسياسة بصورة مثيرة وليست بريئة لاعتبارات شتى منها أن أطرافا في المعارضة المهيكلة أو المنفلتة يمكن أن تستغلها وتحولها إلى وقود يشعل فتيل أزمة اجتماعية قد تؤدي إلى احتقان سياسي إذا نجحت في سحب البساط والمبادرة من الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية وغيرها من الهيئات الوسيطة مثل البرلمان، خاصة وان جملة من الأسئلة المحيرة تلف حملة المقاطعة التي ركزت في البداية على ثلاث مواد لا تقتنيها الأوساط الشعبية الفقيرة، فهي لا تملك سيارة لتحس بارتفاع سعر المحروقات كما أنها لا تحتسي دائما المياه المعدنية. وقد تكون مادة الحليب وحدها، التي شملتها الحملة، تستهلك على نطاق واسع خاصة في المدن.

في نفس السياق، يبدو غريبا أن شركات أخرى منافسة تنتج وتسوق نفس المواد أي الماء المعدني والحليب والمحروقات، تبيع بضاعتها بنفس الأسعار المرتفعة دون أن يمسها النقد. فلماذا الغضب مركز على منتوج ثلاث شركات دون غيرها؟

إن القول بأن الحملة في بدايتها وأن التركيز على المواد المستهدفة حتى الآن، لا يعني أن نظيراتها ستفلت من عقاب المقاطعة، حيث سيأتي الدور عليها في غضون الأسابيع المقبلة. هذا قول لا يصدقه مهتمون مواكبون للاحتجاج. لسبب واضح انه ليس صادرا عن جهة مسؤولة تقف وراء الاحتجاج بالنظر إلى أن المقاطعة حركة تلقائية وعفوية لم تتبنها حتى الآن أية جهة تدعي الإشراف عليها أو هي سلطة للتحكم فيها وإيقافها إن شاءت.

وبطبيعة الحال، لا يمكن نزع الطابع العفوي التلقائي عن حملة المقاطعة.، كما أنه من الجائز أن تكون مجرد ردود أفعال حيال ظاهرة ارتفاع الأسعار، وجدت الفضاء المناسب للتعبير عنها في شبكة التواصل الاجتماعي، فانتشرت كالنار في الهشيم وبات التحكم فيها صعبا حتى على الذين أطلقوها، فهم غير معروفين ولا داعي كي يتستروا وراء قناع السرية.

أمام هذه الإشكالات وهي في مستوى الألغاز، يميل محللون إلى القول إن أكثر من جهة قد تكون متسترة وراء أقنعة من حرير هي المحركة للحملة. قد تكون لها مصالح اقتصادية وتريد الاستفادة من الأضرار التي سوف تلحق الشركات ضحية الحملة، ما يسهل علي الأولى جني أرباح ومكاسب مالية طائلة

رأي آخر يجنح إلى القول بأن الحملة هي في أساسها سياسية ومن تدبير فاعل أو فاعلين في المجال، غايتها خلط أوراق المشهد الحزبي،لتهيئ الأسباب والظروف لانبثاق مشهد مغاير بديل، يمكن أن يتبلور في انتخابات جديدة سابقة لأوانها أو تعديل الدستور ودون استبعاد تشكيل حكومة فنية فاعلة تشرف على إكمال أجندة الإصلاحات الكبرى. وهذا إجراء سيقابل بالترحيب الشعبي ما دامت السلطتان التشريعية والتنفيذية شبه عاجزة عن التحكم في مسار الأحداث.

هذا التحليل المتقاسم بين أحاديث العامة والنخب، يستند مروجوه على إشارات سبق ان وردت في خطب العاهل المغربي الأخيرة، حين عبر صراحة عن عدم رضاه عن الكيفية التي يدبر بها الشأن العام في البلاد؛ لذلك دعا الملك محمد السادس إلى القطع صراحة مع النموذج التنموي الذي يتبعه المغرب.

والأكيد أن ملك المغرب لم يقصد التنمية الاقتصادية بل حتى السياسية أيضا لارتباط الاثنين. الحكومة الحالية تبدو متراخية لا يحكمها قدر كاف من الانسجام السياسي المطلوب في مكونات حكومة ائتلافية. المثير في هذا الأمر أن عضوا مؤثرا في الحكومة الحالية، بحكم الحقائب التي يتولاها هو وحزبه، مستهدف بالاسم والصفة في حملات المقاطعة.

والنتيجة أن المقاطعة وإن غلب عليها الجانب التجاري الصرف، فإنها تحولت أمام صمت السلطات وتردد الفاعلين الحزبيين في التعاطي معها بشكل من الأشكال، تحولت إلى قضية سياسية كبرى، لا يمكن حلها إلا بتدخل من نفس الطبيعة وبإجراءات استثنائية.

للإشارة، ترد في وسائل الإعلام وأدوات التواصل المغربية، مقارنة الحملة ضد الغلاء، بالحراك الذي فجرته حركة 20 فبراير عام 2011. الحقيقة أن الانتفاضة ضد الأسعار التي تمس قوت الناس، يمكن أن تكون أخطر من حركة مطالبة بالإصلاح السياسي، أمكن إخمادها بإجراءات سياسية جريئة وغير مسبوقة،تجاوزت سقف مطالب الحركة التي تحولت إلى مجرد ذكرى.

إن الثابت المتكرر في حركات الاحتجاج بالمغرب، هو أنها تعكس حراك المجتمع بسرعة أقوى من تلك التي تتحرك بها التنظيمات السياسية. هنا تكمن المفارقة في المجتمعات الباحثة عن طريق الخلاص من ضغوطات الحياة.