حقل العمر: قبل يومين، دفنت ديما قطران إحدى ابنتيها التوأمين، وحملت الثانية هربًا من آخر نقاط سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في شرق سوريا، على غرار مئات النازحين يوميًا، مع تقدم قوات سوريا الديموقراطية في آخر معاركها ضد الجهاديين.

بعد رحلة في جنح الظلام، استمرت ساعات، وسط برد الصحراء القارس، وصلت ديما (22 عامًا) وابنتها بعد ظهر الجمعة ضمن أكثر من 700 شخص، غالبيتهم من عائلات مقاتلي التنظيم، إلى منطقة قريبة من حقل العمر النفطي في دير الزور، في توقف يسبق نقلهم إلى مخيم مخصص لهم شمالًا.

تقول ديما لوكالة فرانس برس بينما تنهمر الدموع من عينيها اللتين لم يحجبهما النقاب "لديّ توأمان (11 شهرًا)، واحدة دفنتها والثانية تموت، مريضة تعاني من الزحار والتقيؤ".

تضيف بتأثر شديد "احترق قلبي عليها (...) ماتت من البرد والجوع. نمنا 11 يومًا في الشارع بعدما قصف بيتي" في بلدة الباغوز التي تشكل أحد خطوط الجبهة في ريف دير الزور الشرقي.

وصلت ديما، كما تقول قبل عام، إلى الباغوز مع عائلة زوجها، نازحين من مدينة البوكمال، التي طرد الجيش السوري التنظيم المتطرف منها في أواخر العام 2017. وكانت العائلة توجّهت إلى دير الزور بعد رحلة نزوح مماثلة من حلب.&

تؤكد الشابة ألا علاقة لها بتنظيم الدولة الإسلامية، وأنّ جلّ ما تريده هو الوصول إلى زوجها المقيم في تركيا، على حد قولها، حيث يعمل كطاه. وتكرر "أخاف منهم". لدى توقفهم قرب حقل العمر النفطي، تبدو معالم الإرهاق واضحة على وجوه النساء والأطفال الذين تم نقلهم على متن 12 شاحنة صغيرة ضاقت بهم.

يخبئ غبار أبيض كثيف ملامح الأطفال، الذين يشكو عدد منهم من طفح وأمراض جلدية غزت وجناتهم. وداخل الشاحنات، يختلط صراخ الأطفال الرضّع بأصوات أمهاتهن اللواتي يحاولن تهدئتهم.

يسمح مقاتلو قوات سوريا الديموقراطية للنازحين باستراحة قصيرة، فيسارع البعض إلى النزول من الشاحنات. تمسك إحداهن بولديها، متجهة إلى مكان خلف السيارات لقضاء حاجتهما.&

يطلب البعض الطعام والشراب، ويقولون إنهم لم يأكلوا منذ أيام عدة مع اشتداد الحصار والقصف الذي يلاحق آخر الجهاديين.

أوضاع يائسة
وتخوض قوات سوريا الديموقراطية بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن منذ 10 سبتمبر هجومًا واسعًا لطرد التنظيم من آخر جيب له في شرق سوريا، حيث بات وجوده يقتصر على مساحة محدودة.

وتتكرر منذ أيام موجات نزوح جماعي. ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان خروج أكثر من ثمانية آلاف شخص منذ الاثنين، بينهم نحو ألف جهادي، ليرتفع بذلك إلى 29 ألفًا عدد الخارجين من جنسيات مختلفة منذ مطلع ديسمبر.

وأبدت الأمم المتحدة قبل أسبوعين خشيتها على المدنيين المحاصرين داخل هذا الجيب متحدثة عن "أوضاع يائسة بشكل متزايد مع تناقص الخدمات".

تحاول سارة السهر (32 عامًا)، وهي أم لطفلين، جاهدة تهدئة رضيعها. تنزل من الشاحنة تتجول به قليلًا وتهزه من دون جدوى. وتبرر بكاء طفلها بأنه "جائع ومريض.. ليس هناك طعام، بل جوع فقط"، مضيفة "لا شيء هناك حتى الحفاضات".

على غرار ديما، تصرّ سارة على أنه لا علاقة لها بمقاتلي التنظيم المتطرف، وهو أمر ما لا يمكن التحقّق منه. تقول "لم يسمحوا لنا بالخروج، حاولنا ثلاث مرات، وأعادونا. في المرة الأخيرة مشينا ست ساعات" قبل الوصول إلى مناطق قوات سوريا الديموقراطية.

متى نصل؟
ضمّت مجموعة الفارين الأخيرة الجمعة 600 مدني، غالبيتهم من عائلات الجهاديين ومن الجنسية العراقية، وفق ما يوضح لفرانس برس محمد سليمان عثمان، عضو مجلس سوريا الديموقراطية المرافق لهم إلى مخيم الهول. إضافة إلى المدنيين، ضمت المجموعة 150 رجلًا وشابًا يُشتبه في انتمائهم إلى التنظيم، جرى فصلهم عن المدنيين، بعد خروجهم قرب الجبهة، وتسلمتهم قوات سوريا الديموقراطية.

ونُقلت 14 إمرأة مع أطفالهن من جنسيات مختلفة، بينها روسية، أوكرانية، كازاخية وتركية، إلى مركز خاص للتحقيق معهن. في المركز، شاهدت مراسلة فرانس برس النسوة يجلسن مع أطفالهن داخل قاعة كبيرة، وتنهمك إحداهن بتبديل حفاض ابنها المصنوع من قماش وأكياس بلاستيكية.

في زاوية القاعة، ترضع الأوكرانية مريم (20 عامًا) طفلها، قبل أن تمسح وجهها بيديها. تتردد في الإجابة عن أسئلة فرانس برس ثم تقول باللغة العربية الفصحى "عليّ أن أرتاح لأتذكر ماذا حصل معي".

أمام الشاحنات في حقل العمر، تردد نساء السؤال نفسه: "متى سنصل إلى مخيم الهول، هل الطريق طويل؟، لقد أصابنا التعب".وتفترش نساء الأرض، تتوسطهم طيبة (54 عامًا) المتحدرة من ريف حلب. تقول إنها خرجت مع زوجها، لكنه في عداد من جرى توقيفهم للتحقيق معهم.

وتوضح المرأة التي يكشف النقاب عينيها والتجاعيد حولهما "خرجنا لأن الجبهات باتت قريبة علينا"، قبل أن تقاطعها أم براء (20 عامًا) "الشوارع مليئة بالناس التي لا تجد مكانًا للمنامة، كنا ننتقل من حي إلى آخر".&

وتعرب المرأة التي قتل زوجها، المقاتل في صفوف التنظيم، قبل فترة قصيرة جراء الغارات، حزنها لما آل إليه الوضع الميداني أخيرًا. وتقول "كنا مرتاحين كثيرًا (...) لو لم يحصل تقدم على الجبهة لما كنا خرجنا". تضيف "أما الآن، فلا نعلم ماذا ينتظرنا".&
&