لا تجتمع الحكومة اللبنانية، على الرغم من ضرورة اجتماعها، خوفًا من أن تكون حادثة قبرشمون قبرًا محفورًا لها، فتنفجر مسألة إحالة الحادثة إلى المجلس العدلي، وتكرّ سبحة الحكومة.

إيلاف من بيروت: مثار الأخذ والرد اليوم في الساحة السياسية اللبنانية قضية مهمة، يحاول بعضهم إلباسها اللبوس القضائي، بينما هي سياسية بامتياز. إنها قضية إحالة حادثة تبادل إطلاق النار في بلدة قبرشمون الجبلية إلى المجلس العدلي، هذه الإحالة التي يبدو أنها تهدد بانفضاض شمل الحكومة، بعد تبادل التهديدات بالاستقالة، من طرف يؤيد الإحالة، ومن آخر يعارضها.

محكمة استثنائية

يصف المحامي اللبناني جهاد أبو عمّو لـ "إيلاف" المجلس العدلي اللبناني بإنه محكمة استثنائية، "لأنه لا يأتي ضمن التنظيم القضائي العادي المعروف في لبنان، بل هو محكمة مختصة - بحسب الباب الخامس من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني - بمسائل خاصة تتعلق بالاعتداء على أمن الدولة، أكان هذا الاعتداء خارجيًا أم داخليًا، أو بقضايا التجسس والإرهاب وصفقات الأسلحة والأعتدة والاغتيالات السياسية، وما يستتبعها من جرائم أخرى ينصّ عليها قانون القضاء العسكري اللبناني"، علمًا أن هذه الجرائم نفسها تخضع للنظام في التنظيم القضائي للمحاكم العادية، أي تلك التي تبدأ بالنيابة العامة وبقاضي التحقيق، وتنتهي بمحكمة الجنايات وغيرها من المحاكم العادية اللبنانية.

يؤلف المجلس العدلي من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسًا، ومن أربعة قضاة من محكمة التمييز أعضاء، يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. يمثل النيابة العامة لدى المجلس العدلي النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من معاونيه (المادة 357 من أصول المحاكمات الجزائية). يتولى النائب العام التمييزي أو من ينيبه عنه من المحامين العامين لدى النيابة العامة التمييزية مهام تحريك الدعوى العامة واستعمالها. يتولى التحقيق قاض يعينه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى (المادة 360). للمحقق العدلي أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة. إن قراراته في هذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. يضع يده على الدعوى بصورة موضوعية. إن أظهر التحقيق وجود مساهم في الجريمة فيستجوبه بصفة مدعى عليه ولو لم يرد اسمه في عداد من ادعت عليهم النيابة العامة. للنيابة العامة أن تدعي لاحقًا في حق شخص اغفلته في ادعائها الأصلي وعلى المحقق أن يستجوبه بصفة مدعى عليه (المادة 362).

مرسوم حكومي

بحسب المحامي جهاد أبو عمّو، لا تُحال أي جريمة إلى المجلس العدلي إلا من خلال مجلس الوزراء، حصرًا، وبمرسوم خاص يوقعه رئيسا الحكومة والجمهورية، ووزير العدل، "علمًا أن ذلك يحتاج إلى اجتماع مجلس الوزراء بثلثي أعضائه في الأقل، كما يستدعي موافقة نصف أعضاء مجلس الوزراء حاضري الجلسة زائد واحد، وبعدها يُتخذ القرار بصيغة مرسوم. وتاليًا، يعود أمر الإحالة على المجلس الدستوري إلى مجلس الوزراء وحده، وله في أي قضية من هذا النوع سلطة تقديرية استنسابية، نظرًا إلى درجة خطورة الجريمة، والطرف الذي نفذها، والطرف الذي استهدفته، والظروف التي حصلت فيها، كما أن قراره في الإحالة إلى المجلس العدلي أو خلافه لا يخضع لأي رقابة قضائية".

يضيف المحامي جهاد أبو عمّو لـ "إيلاف": "بغض النظر عن أهمية الجريمة، إحالة أي قضية إلى المجلس العدلي لا تعني التسريع في التحقيق فيها أو إجراء المحاكمات، أو معاملة القضية باهتمام أكثر من اهتمام المحاكم العادية والنيابة العامة وقضاة التحقيق، فالمسألة محصورة في التوصيف، وفي أن قرارات المجلس العدلي مبرمة، لا تخضع لأي تمييز أو استئناف، إنما يمكن فقط إعادة المحاكمة، أمام المجلس العدلي نفسه".

قضية يوسف شعبان

إذًا، أحكام المجلس العدلي في لبنان مبرمة لا يمكن مراجعتها، حتى لو أخطأت. وهذا ما حصل مع الفلسطيني يوسف شعبان الذي أدانه المجلس العدلي في عام 1994 بتهمة قتل الدبلوماسي الأردني نائب عمران المعايطة في بيروت، وحكمه بالسجن المؤبد على الرغم من إصراره على إنكار ما نسب إليه من جرم، وعلى تعرّضه للتعذيب في اثناء احتجازه ومحاكمته.

قبع شعبان في سجنه حتى بعدما قضت محكمة أردنية في عام 2002 بأن آخرين هم من قتلوا الدبلوماسي المذكور. فلأن أحكام هذا المجلس لا تقبل أي مراجعة أو نقض أو استئناف، بقي شعبان نزيل زنزانته وهو البريء ببراءة مشهودة، وممهورة بحكم محكمة أردنية.

حاول أهله التوسط لدى رئيس الجمهورية اللبناني الأسبق إميل لحود لاستصدار عفو رئاسي، فرفض طلبهم، إلى أن أصدر الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في يوليو 2009 عفوًا رئاسيًا عن شعبان، منهيًا بذلك اعتقالًا تعسفيًا دام 15 عامًا.

النائب الدرزي طلال أرسلان

إحالة متفجّرة

اليوم، ما زال النائب الدرزي طلال أرسلان مصرًّا على إحالة حادثة تبادل إطلاق النار في بلدة قبرشمون الجبلية، بين أنصاره من مرافقي الوزير صالح الغريب، وأنصار وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والزعيم الأبرز لدروز لبنان، إلى المجلس العدلي، على الرغم من أن التحقيقات التي تجريها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي اللبنانية كشفت أن المُبادر إلى إطلاق النار في الحادثة كان مرافقو الغريب، أي أنصار أرسلان نفسه.

هذا الكشف ينفي صفة الكمين عن الحادثة برمتها، وبالتالي ليس ما يستدعي إحالتها إلى المجلس العدلي بحسب التوصيف القانوني للمجلس، هذه الصفة التي يصر أرسلان، ومعه أولياء نعمته في السياسة من حزب الله إلى تيار وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، على التمسك بها عنوانًا سياسيًا لجر جنبلاط أو أحد أركان حزبه - هنا وزيره في الحكومة أكرم شهيب الذي يتهمه أرسلان بتدبير الكمين المزعوم - إلى المجلس العدلي لمحاكمته، تمهيدًا لإقصاء جنبلاط عن الساحة السياسة، بحسب ما تعلنه مصادر الأخير، علمًا أن أرسلان نفسه لم يكن ليتبوأ كرسي النيابة في البرلمان لولا مكرمة خصمه جنبلاط الذي يترك له مكانًا نيابيًا شاغرًا في قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان.

يكتفي بالتصعيد

يتساءل المحامي جهاد أبو عمّو: "لماذا يرفض أرسلان تسليم مرافقه أمين السوقي، قاتل علاء أبو فرج في حادثة الشويفات، على الرغم من أنه معروف، والوقائع الجرمية معروفة، بينما يطلب اليوم إحالة حادثة قبرشمون إلى المجلس العدلي، مدعيًا أن لا مطلوبين عنده، بل شهود، على الرغم من أن معطيات التحقيق لم تتضح كليًا بعد، وعلى الرغم من مبادرة جنبلاط إلى إسقاط الحق الشخصي في جريمة الشويفات وأدًا لأي فتنة؟ وهل يجوز الكيل بمكيالين في شأن خاص بالقضاء؟".

إن كان جنبلاط يؤكد في كل موقف وتغريدة أنه منفتح على كل الحلول، وإن كان قد قدّم إلى القضاء من طلبته العدالة للتحقيق من أنصاره، فإن أرسلان يكتفي بالتصعيد بوجه جنبلاط رافضًا تسليم المطلوبين من أنصاره، مدعيًا أنهم شهود على ما حدث ليس إلّا، على الرغم من أن التحقيقات كشفت أنهم من بدأ بإطلاق النار، متكلًا على حزب الله وبقايا النظام الأمني السوري في لبنان، ما يضع الحكومة اللبنانية على كفّ عفريت.

الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في دارته في كليمنصو في بيروت

فأرسلان وصحبه يريدون إحالة المسألة إلى المجلس العدلي، وجنبلاط ومعه رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حزب القوات اللبنانية يعارضون هذه الإحالة، وبالتالي يؤجل الحريري الدعوة إلى عقد جلسة وزارية مخافة أن تنفجر من داخلها، أو أن يتكتل باسيل ووزراؤه مع وزراء حزب الله فيستقيلون ويقيلونه معهم، كما حصل في انقلابهم عليه في عام 2011.

فهل يبتلى لبنان بمجلس عدلي يفجّر البقية الباقية من مؤسسات دستورية، بعدما قضم حزب الله البلد؟