محمد الساعد

منذ أن قامت الدولة السعودية الحديثة في دورتها الثالثة عام 1902، ومع أنها خاضت عشرات من معارك التوحيد وواجهت الكثير من المقاتلين أو المعارضين لاحقاً، إلا أنها لم تقم يوما بملاحقة أو اختطاف معارضيها أو اغتيالهم.

مراجعة صغيرة لتعامل هذه الدولة الملكية العريقة مع مواطنيها، وما بنته من أدبيات الخلاف مع من تنكر لها وخانها سيكشف لنا كيف تفكر، ولماذا تقوم بذلك الخيار السلمي دائما.

مع نهاية الخمسينات والستينات والسبعينات الميلادية، كانت الدول العربية مسرحا لموضة الانقلابات العسكرية والخلايا السرية المعارضة التي تتبنى القومية أو البعثية أو الشيوعية، تأثر بعض السعوديين كما الآخرين.

لم يكن يمر يوم دون أن تسيل الدماء في بغداد أو دمشق أو ليبيا أو صنعاء أو طهران أو بيروت، اغتيالات تتلوها اغتيالات، كان معارضو بغداد يتم اغتيالهم علانية في المسارح وأمام الناس، ومعمر القذافي يلاحق الليبيين ويقتلهم في العواصم الأوروبية مسميا إياهم بالكلاب الضالة، حزب البعث السوري تخصص في التخلص من معارضيه بوضعهم في خزانات كبرى من الأسيد المذيب، الإيرانيون أرسلوا فرقا من جوالة الحرس الثوري لقتل أعضاء منظمة خلق في أوروبا.

في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العالم العربي وجدت المملكة نفسها تواجه تحريضا مستمرا لأبنائها من إعلام ودول محور الشيوعيين والبعثيين والقوميين، تحاول دفعهم للخروج على الدولة والقيام بأعمال تخريبية، إلا أنها كانت تتجنب تلك الدماء وتنأى بنفسها عن تلك الطريقة في التعامل مع خصومها.

لقد وصل الأمر للتدخل العسكري في بعض المناطق السعودية، وإسقاط معدات وأجهزة اتصالات بالطائرات في مناطق أخرى ليستخدمها المنخرطون في المؤامرات، قبض على بعض المتآمرين وفر البقية، من أوقف حوكم وسجن وأطلق سراحه بعد قضاء محكوميته أو جزء منها.

لكن الأهم من ذلك كله كان في الطريقة الفريدة والإنسانية والرحيمة التي كانت تتعامل بها الدولة السعودية مع من هرب، والتي لا تزال إلى اليوم بمعادلة «ولا تزر وازرة وزر أخرى».

قصص شهيرة تحكي عن إنسانية حكام المملكة مع بعض المشاركين في إلحاق الضرر بوطنهم، خاصة من هرب منهم لخارج البلاد -أتحفظ عن ذكر أسمائهم لظروفهم العائلية- وهذه أمثلة منها فقط.

في نهاية الستينات استطاع أحد المتآمرين الهروب إلى مصر، الدولة الداعمة لهم في تلك الفترة، وأسس برامج إذاعية شديدة الإساءة موجهة للداخل السعودي وللعالم العربي، استمر على ذلك لسنوات، ثم بعد تحسن العلاقات خرج من مصر إلى ليبيا إثر ثورة الفاتح، لعله يجد فيها ما يغنيه عن وطنه، لم يبق طويلا حتى ضاق به الحال، وأخيرا لم يجد غير بلاده، طلب التوسط لدى الملك فيصل -رحمه الله- الذي كانت المؤامرة ضده، كان جواب الفيصل هو جواب ملوك وأمراء الدولة السعودية «هذه بلاده ولا أحد يمنعه من العودة إليها»، عاد الرجل وعاش كريما بين أهله وناسه، المدهش أن أحد أبنائه ترقى في السلك الحكومي حتى وصل إلى وكيل وزارة، ثم اختير ليشغل مرتبة معالي في واحدة من الوظائف العليا في المملكة.

قصة أخرى حدثت في السبعينات الميلادية لطالب سعودي كان يدرس على حسابه في لندن، التقى يوما بمسؤول سعودي -مصادفة- وحصل بينهما نقاش حاد من طرف الطالب ضد دولته وخياراتها، المسؤول احتواه وطلب منه الانخراط في الإصلاح من الداخل، أيّام ويتلقى «الطالب» اتصالا من السفارة السعودية يرحب بقبوله في برنامج البعثات على حساب حكومة جلالة الملك، أسابيع أخرى يأتيه اتصال آخر يؤكد له ضم زوجته وعائلته لرواتب البعثات لتحسين وضعه الاجتماعي، عاد لبلاده بعد تخرجه حتى وصل مديرا لأحد أشهر المستشفيات في السعودية.

المثير هو ما حصل عندما احتلت مجموعة مارقة الحرم المكي الشريف 1400هـ، وكان ولي العهد السعودي حينها الأمير فهد بن عبدالعزيز يمثل المملكة في قمة عربية بتونس، اقترح الرئيس العراقي صدام حسين على الأمير فهد قتل أبناء عشيرة من قام بالجريمة، كما يفعل هو في العراق، بالطبع لم يفعلها الملك فهد، عوقب من أجرم فقط، أما أبناء من شاركوا فقد أصبحوا ضباطا وموظفين مرموقين في بلدهم.

&