يبدو أن وسائل الإعلام السائدة، وبسبب عدم ودها لشخص الرئيس دونالد ترمب، قد تغافلت عن أهمية مضمون خطاب الرئيس الأميركي الذي ألقاه أخيراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة انعقادها الأخيرة في نيويورك؛ إذ تعمدت بعض وسائل الإعلام تجاهل الخطاب تماماً في حين وصمت منصات إعلامية أخرى الخطاب بأنه حالة أخرى من الترهات «الترمبية» الجديدة.

ومع ذلك، فإن غضضنا الطرْف عن طرحه الانفعالي ومفرداته الاستفزازية، فإن الخطاب الرئاسي مستحق للانتباه، وربما الاهتمام، لسببين رئيسيين على الأقل. السبب الأول أن الرئيس ترمب أشار في خطابه إلى ما يعتبره النهاية الوشيكة للعولمة، وهو النموذج الذي يسيطر على الحياة الدولية منذ سبعة عقود وبدرجات متباينة من الكثافة والشدة.

والسبب الثاني هو أن البديل الذي اقترحه الرئيس ترمب بصورة ضمنية، وإن كان بأسلوب غير مباشر، من شأنه أن يضع النظام العالمي المعروف على مسار جديد بتداعيات غير معروفة.

ووفقاً لبعض المؤرخين فإن متوسط العمر الافتراضي للنموذج يقارب ثمانية عقود على الأرجح. وهو يبدأ كفكرة جديدة شديدة الجاذبية، ثم يتحول بمرور الوقت إلى نوع من الحكم الراسخة، وذلك على طريقه صوب الهبوط الحتمي، ثم الضمور التام في خاتمة المطاف.

كان نموذج العولمة من مخترعات النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة عندما تواجهت بتحديات النظام العالمي الجديد في أعقاب الحرب العالمية الثانية. حيث ظهرت حفنة من رجال الدولة الأميركيين، كانوا معروفين وقتذاك باسم «الرجال البيض»، وضعوا مخططات ما صار يُعرف بعد ذلك باسم «باكس أميركانا: السلام على الطريقة الأميركية». وكان من بينهم جورج مارشال، ودين أتشيسون، وكورديل هال، وتشارلز بوهلين، وأفيريل هايمان، وجون ماكلوي، وروبرت لوفيت، والرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، ثم الرئيس الراحل هاري ترومان، من بين آخرين.

وأعرب الرئيس هاري ترومان، في أول خطاب رئاسي يلقيه أمام الاجتماع الأول للجمعية العامة للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945، عن الحاجة الماسة إلى التعددية القومية.

وجاء في خطابه: «إننا ندرك تماماً اليوم أن الانتصار في الحرب استلزم الجهود القوية الموحدة. وبكل تأكيد، فإن الانتصار في معارك السلام يتطلب بذل الجهود المماثلة. ولقد أدرك الإنسان منذ زمن طويل أنه من المحال أن يعيش بمفرده ولنفسه فقط. وينسحب هذا المبدأ الأساسي ذاته على الأمم والدول والشعوب. لم نكن منعزلين عن العالم طيلة فترة الحرب. ولن نجرؤ الآن أن نلتزم العزلة عن خوض معارك السلام».
وانطلق الرئيس ترومان إلى الحض على إنشاء «آلية معقولة تعمل على تسوية النزاعات بين الأمم. ومن دون هذه الآلية، لن يجد السلام محلاً يعيش فيه بيننا».

ومع ذلك، سرعان ما أشار الرئيس ترومان إلى أن إنشاء مثل هذه الآلية المهمة لا يعني بالضرورة القضاء التام على الخلافات ما بين الأمم والشعوب.

بل إنه قال موضحاً: «سوف تبقى الخلافات على الدوام بين الناس، وبين الدول. وفي واقع الأمر، إن قُيدت الخلافات ضمن حدود معقولة من السيطرة، فإن مثل هذه الخلافات يمكن أن تكون مأمونة الجانب. وكل أشكال التقدم نشأت بالأساس من رحم الاختلاف في الرأي، ثم المضي قدماً إلى حيث يمكن ضبط الخلافات من خلال التعقل والتفاهم المتبادل».

ونجح النظام العالمي الجديد، اللازم تماماً لإنشاء «السلام على الطريقة الأميركية»، في إرساء أركان الآليات المطلوبة في وقت قياسي. وتأسست منظمة الأمم المتحدة بكل هيئاتها وتفريعاتها المتنوعة بنحو كامل في غضون بضع سنوات إلى جانب إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، والمنظمات الأكثر حصرية مثل مجلس الأطلسي، ثم منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وبحلول عقد الثمانينات، صيغ السفر الأميركي للتجارة الحرة، والتعددية الديمقراطية واقتصاد السوق باعتباره نموذجاً للنظام الدولي عندما ظهر الاتحاد السوفياتي، من خلال اعتماده الهائل على القروض من المصارف الغربية، وجمهورية الصين الشعبية مع تحولها إلى النظام الرأسمالي، وكأنهما المعتنقان الجديدان للنظام الجديد، ولو بصفة جزئية على أقل تقدير.

ومع ذلك، بحلول نهاية القرن الماضي، بدأ النظام القائم في إظهار بعض أوجه الضعف الأساسية.

لقد ظهرت الأمم المتحدة كآلية «تسويفية» متباطئة ينصب تركيزها الأول على «تجميد» المشكلات الدولية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك المشكلة الإسرائيلية - الفلسطينية التي رقصت منظمة الأمم المتحدة حول نيرانها المشتعلة قرابة خمسة عقود كاملة مما أفضى إلى التغافل عنها وإهمالها على الصعيد الدولي بمرور الوقت.

وكانت الأمم المتحدة غائبة في سبات عميق أيضاً عن مواكبة تطورات واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية، مجازر رواندا المريعة. ولم تتزعم الأمم المتحدة صدارة الدول كذلك في إنهاء المآسي الفظيعة التي اندلعت في قلب أوروبا إثر تفكك الاتحاد اليوغوسلافي السابق.

ولقد ساهمت آيديولوجيات التجارة الحرة في جمع الملايين على ذريعة محاربة الفقر ولكنها تمخضت عن انخفاض كبير في مستويات المعيشة لدى بعض الطبقات في المجتمعات الصناعية القديمة، الأمر الذي عزز من مشاعر السخط والإحباط واليأس.

تمكنت الدول المتوسطة والصغيرة، بفضل العولمة، من تأمين المرونة الكافية للوفاء بإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وفي ثمانينات القرن العشرين، فرضت المؤسستان الدوليتان السياسات الاقتصادية على أكثر من 60 دولة في كافة أنحاء العالم. وفي عام 2018، كانتا نشطيتين في أقل من عشر دول في حين أنهما طُردتا تماماً من عدة دول أخرى.

ويرجع الانخفاض في سلطات المنظمة الدولية وصلاحياتها بصورة جزئية إلى الارتفاع الهائل في النفوذ الاقتصادي والمالي الذي تحظى به إمبراطوريات الأعمال العالمية استناداً إلى التكنولوجيا الحديثة.

وحظي نموذج العولمة بدعم أغلب بلدان العالم طالما أن أهمية الدولة القومية لم ينلها أي أذى. وبرغم ذلك، كشفت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 عن حالة العجز التام للدول القومية في فرض الرقابة المجدية من خلال الآليات الدولية القائمة.

وفاز السيد ترمب برئاسة الولايات المتحدة في وقت دخل فيه النظام العالمي، الذي أسسه «الحكماء الأميركان»، في مرحلة الانحدار. وإلى جانب الانتخابات في اثنتي عشرة دولة أخرى في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، كانت انتخابات السيد ترمب بمثابة رد فعل عاطفي انفعالي على الاعتلال الذي عمَّ ربوع العالم الحالي.

ولكن ما الذي يتعين فعله؟&

حاول الشعب البريطاني الإجابة عن هذا التساؤل من خلال الاستفتاء على «البريكست».

وتخيرت شعوب كل من المجر، وبولندا، والتشيك، والسويد، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، أشكالاً مختلفة من القومية مع نكهة كراهية الأجانب اللاذعة.

وفي روسيا، شرع الرئيس فلاديمير بوتين في صياغة استراتيجية إظهار القوة بغية مواراة نقاط الضعف الداخلية الأساسية.

وفي الصين، في عهد رئيسها الحالي شي جينبينغ، ضُبط الإيقاع حول المركزية الصينية الراهنة عوضاً عن الماوية الكلاسيكية القديمة.

أما الرئيس دونالد ترمب فقد حاول طرح مزيج جديد من الانعزال الاستراتيجي والنشاط التكتيكي عبر شعار «أميركا أولاً» على اعتباره الآيديولوجية المعتمدة حديثاً في سياسات البلاد.

وحاولت بعض الشخصيات الغربية البارزة، ومن بينهم على سبيل المثال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وبابا الفاتيكان السابق، بنديكت السادس عشر، التبشير بالعودة مجدداً إلى «الثقافة المسيحية» على اعتبار أنها العمود الفقري الأصيل للنظام العالمي البديل، على الأقل بالنسبة لأوروبا والأميركتين.

ولقد حاول كل من الرئيس هاري ترومان في سان فرانسيسكو والرئيس دونالد ترمب في نيويورك جذب انتباه العالم إلى المشكلة الحقيقية. وكان لدى ترومان الحل في صورة البنيان العالمي الذي شيدته الولايات المتحدة بشأن مفهوم العولمة.

أما الرئيس ترمب، في المقابل، فقد قيد نفسه على مجرد شن المناوشات على بعض جوانب العولمة لجذب الانتباه والاهتمام إلى المشكلة. وهذا في حد ذاته يستحق البحث عن نموذج عالمي جديد وبديل.
&