& عبدالله بشارة&

&

منذ أيام التقيت، صدفة، بعض الاخوة البحرينيين الذين يزورون الكويت وتحدّثت معهم، حيث كنا في ساحة فندق الفورسيزون بالكويت، ولأنهم من العاملين في الاستثمارات فقد جرّنا الحديث عن قرار الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات بوضع سياج مالي يحمي البحرين من التعثُّر، في ثناء على معاني هذه الخطوة في رسالتها إلى العالم بأن البحرين ضلع جوهري في القفص الصدري الخليجي، وأن الترابط لا يكتفي بالأبعاد السياسية، إنما هو قاعدة البقاء وحصن السلامة الجماعية.
ونحن في الكويت لنا روايات تاريخية مع الأهل في البحرين، ومع حكامها، كنا شركاء في البحث عن مواقع المحار في قاع الخليج، ونذهب أكثر في استذكار التاريخ، ففي عام 1775، احتل شاه إيران، واسمه نادر شاه، مدينة البصرة، بسبب تواجد القراصنة العرب المعترضين للسفن الايرانية والهروب نحو البصرة التي تكاثرت فيها الاعداد، وكان هؤلاء من الذين دفعتهم شدة المناخ وفقر المنطقة لممارسة القرصنة، وانتشرت موجات الهجرة من البصرة هروبا من نادر شاه، ومنهم من اتجه إلى الكويت جنوباً، بما فيهم دائرة البريد البريطانية، ووجد هؤلاء القادمون من البصرة ميناء جميلاً محصّناً ضد مفاجآت الطبيعة، فاستقروا. ومع الخيال المبادر وقوة العزم، استقدموا الخشب من الهند واستعانوا بصناع السفن البحرينيين الذين اندمجوا في الكويت وتعايشوا مع تربتها وسجلوا حضورهم التاريخي، ومن هذا التلاقي صارت الكويت شعباً بحرياً ماهراً.. هذه تدوينات تاريخية، لا جدل ولا اجتهاد فيها.


وعلى دروب العلاقات بين البلدين وجدت الكويت مخلفات من ادعاءات إيرانية، فتضايقت منها وتصدّت لها بهدوء، بدايتها في رحلة المرحوم الشيخ صباح السالم إلى إيران عام 1966، وتلاحقت بزيارة سمو الامير عندما كان وزيرا للخارجية في أغسطس من العام نفسه، لتنطلق حسن المساعي تمثلت في لقاءات بفيلا زاهدي في مونترو-سويسرا، استوعبت ربما ثلاث سنوات وتوّجت بالنجاح في آخر يوم من سنة 1970، حيث احتفلت وفود إيران والكويت والبحرين برأس السنة بزوال الادعاءات، ومن هذا المنعطف تنضم البحرين إلى نادي الدول المستقلة في الأمم المتحدة.
شاهدت سلوك البحرين في الأمم المتحدة، وكان يتّزين بالعقل ويراعي الهدوء وينتخي للعدالة ويحتمي بتاريخ أبيض من دون عدوانية، ويلتزم بحدود الذوق العام، فلا يلتحم مع نيران القوة عندما كانت الأمم المتحدة بقعة صراع بين المحورين، وظلت بعيدة عن الصخب في انتظار الفرصة التي تنفتح لها، وجاء دورها في مجلس الأمن عن المجموعة الآسيوية، وكانت أعلى من التوقّعات في إنصاف الحق وتبنّي العدل، وأضافت من تلك التجربة، فصلاً يعطي برهاناً على منافع حسن الادارة ونظافة السلوك، وكانت رغم نعومتها لا تنفر من المواجهة في مجلس الأمن، متدرعة بالدفاع عن المبادئ والقيم.
رصدت البحرين جيداً مغزى مجلس التعاون لمستقبلها، فمهما كان التذمّر وقسوته ومهما كان عمق الجراح، يظل مجلس التعاون حصناً خليجياً غيوراً على سلامة الجميع، ولم تغب هذه الحقيقة عن بال المسؤولين فيها، وأبرزهم المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان، الذي وجدته يوماً في زيارتي إلى البحرين متأثراً من أخبار وصلته عن تبنّي سوريا جماعات بحرينية وتدربها للعبث باستقرار البحرين، فتوجّهت إلى سوريا وكان الرئيس حافظ الأسد مستمعاً إلى هموم الشيخ عيسى، فقال لي إن الشيخ عيسى من الملائكة ولا يمكن أن يتجاسر أحد على إيذاء الملائكة.
هكذا جاءت عباراته، ونقلت ذلك للمرحوم الشيخ عيسى الذي رسم بالقيم والعقلانية هذه الصورة التي يتحدث عنها الرئيس الأسد، الذي لم يكن عضواً في كتائب الملائكة، لكنها ــــ أي الصورة ــــ صارت عنواناً للبحرين ونظامه.
لم تخل رحلة مجلس التعاون من المتاعب لكنها انتهت دائماً لمصلحة التوافق، ومن حظ البحرين أن لها نصيباً كبيراً في جودة توظيف الامكانات واستخراج المنافع منها.


البحرين بلد ناعم ابتعد عن دبلوماسية الأشواك والغلاظة، وهي لا تناسب وداعة جسده، وقدم صورة الأدب الرادع الذي يفسد نوايا الخصوم السيئة، ورغم الامكانات المحدودة، فإن البحرينيين شيّدوا دولة بيئتها منفتحة تتميز بالتحضر، وهي بلد فيه سخاء لكل الأذواق وفيه انفتاح لكل التوجّهات، ورحب في مفاهيم الرقابة، أبحث هناك عن الكتب العالمية وأجد في إدارتها للرقابة سعة صدر استفادت من مساهمات تاريخية سكنت البحرين وتركت تراثاً غزيراً.
كما أسعد لما ترمز إليه منطقة المركز المالي، حيث يشكّل المركز مستوطنة للاستثمارات الكويتية، مع شعور يصاحب كل من يمر على تلك المنطقة بالتقدير والثناء للمسؤولين الذين بنوا حصناً استثمارياً يضم شركات عالمية.
أروع ما جاء في مسيرة مجلس التعاون فضيلة المشاركة التي جسّدتها مساهمات الدول القادرة في تشييد البنية التحتية في سلطنة عمان والبحرين، في دليل ساطع على مفهوم التعاضد التاريخي ومؤازرة من يستحق، وبهذا الوعي المرتفع تقرر قيادات المملكة العربية السعودية والامارات والكويت التحرّك نحو البحرين لإبعاد احتمالات المتاعب.


ولا جدال في أن عقيدة التشابك تظل مؤثرة في مسار المصير الخليجي الواحد، ونحن مع البحرين لنا بعد خاص مستند إلى إنجازات بحرية استثنائية حملت رجال الكويت ومعهم صُنّاع السفن البحرينيين إلى سواحل الهند وأفريقيا وكسبوا عن جدارة لقب أبناء السندباد.
نعتز بالحس الخليجي الجماعي الذي أبرز الفزعة لدعم البحرين وتأمين آليات السلاسة الحياتية لمستقبلها، ونشيد بمشاعر خادم الحرمين الشريفين، ورئيس دولة الامارات العربية المتحدة، وسمو الشيخ صباح الأحمد أمير الكويت، ونخوتهم في التحرّك السريع، فهم رعاة الحاضنة الخليجية التي تبقى السمة المضيئة في حياة مجلس التعاون.

&

&