وسام سعادة

كان ثمة مجال واسع، في القرن الماضي، لحدوث استقطابات مزمنة في السياسة، من المستوى الأكثر محلية، من القرية، الى البلد، الى الاقليم، الى السياسة الدولية. كان الانتقال من استقطاب الى آخر يحتاج الى اندفاع التناقضات المعتملة والمتراكمة الى لحظة المواجهة الشاملة ليتحقق. من دون هذه المواجهات، لم يكن سهلاً أن تنام على استقطاب وتصحو على آخر.

منذ عقدين، والكوكب، من المستوى الأشد محلية الى النطاق الأكثر كونية، لا ينفك "يزحل" من استقطاب الى استقطاب، والنظريات تدبج وتروج وتتعاقب، ظناً بأن هذا هو الاستقطاب المزمن لا ذاك. والبلدان، تنام على تهديدات الولايات المتحدة لكوريا الشمالية، وتحصو على دونالد ترامب وهو يقول بأنه وقع في هوى الزعيم الكوري الشمالي من أول نظرة حين رآه، يكرّر ترامب مرات عدة بأن معاقبة بشار الاسد ليست من أولوياته، ثم يوجّه رزمة صواريخ، ويتوعّد بإنهاء نظام الاسد، ثم يعود هذا النظام ليس من أولوياته، يفاخر بصواريخه الذكية في مواجهة الروس، ويثير هلعا كوكبياً، من خطورة التدهور الفجائي للعلاقات بين واشنطن وموسكو، ثم يظهر منسجماً "فوق اللزوم" مع فلاديمير بوتين في هلسنكي. ليس ترامب في كل هذا استثناء، حالته معمّمة الى أبعد حدّ، والكوكب الذي كان يهدر الوقت فوق اللازم في القرن الماضي لتمييز التناقضات الثانوية عن تلك الرئيسية، صار يتنقل فيه كل فاعل سياسي، صغُر وكبُر، من التناقض الثانوي الى الرئيسي، من دون مقدمات وتسويغات، لكن ايضاً من دون مواجهات شاملة.

في الداخل اللبناني، الاستقطاب حول سلاح "حزب الله" والموضوعات المتعلّقة به حافظ مع ذلك على طابعه المتمدد لسنوات في الزمان. ما كان سهلاً سحبه من التداول، خاصة وأن نطاق عمل هذا السلاح تجاوز الحدود. لكن، هنا ايضاً، استقطاب لا يمكن ان يذهب الى خواتيمه هو استقطاب سيعود فيستهلك من مصادره هو. ليس ابداً لانه يمكن حل اي كبيرة وصغيرة في البلد من دون التطرق الى هذا الاستقطاب، بل لأنه لا يمكن ذلك، بحيث ان الاستقطاب نفسه صار وطأة تضاف على وطأة السلاح .. يهرب الناس من هذا الى ذاك، ومن دون طائل.

تشابك هذا الاستقطاب الداخلي مع الاستقطاب الاقليمي هو الجانب الآخر من الوطأة. الاستقطاب الداخلي حول سلاح الحزب، على كبوته وتصدع اركانه، وتبلد اشكال مقاربة الاشكال الخلافي الوطني المركزي، وتصدع اشكال مواجهة تغلبية السلاح، الا انه استقطاب أوضح وأكثر ثباتاً من الرمال المتحركة للاستقطابات الاقليمية، قبل الربيع العربي وبعده، وبخاصة بعده، وأكثر فأكثر بعد محاصرته بالثورات المضادة والخيارات اللامحسومة التي تحوّلت الى أغلال اضافية ومخيفة.

صحيح انه لا يمكن فصل الاستقطاب الداخلي المزمن، إنما الذي يعيش كبوة وانعدام توازن في آن، عن الاستقطاب الإقليمي، المتحرّك، المتبدّل، الذي لا تكاد تلتقط فيه أمراً حتى يُعاد خلط أوراقه بمعطيات جديدة في اليوم التالي. لكن ثمة اختلافاً أساسياً بين الطابع الثابت نسبياً للاستقطاب الداخلي اللبناني، وبين الطابع المتحرك للمواقع والمواقف في المنطقة.

انتماء "حزب الله" العضوي الى محور إقليمي بعينه لا يُلغي هذا الاختلاف، أو أقلّه، لا يفترض بأن يحمل القوى ذات المشكلة مع هذا الحزب على طمس هذا الاختلاف. وأكثر فأكثر، ثمة حاجة لاكتشاف هذا: ان المجال الداخلي اللبناني ليس مجرد انعكاس للمجال الاقليمي، نظراً إلى أن سرعة تبدّل الاستقطابات وصعود وهبوط الحساسيات والتوترات في الاقليم لا تُقارَن بتباطؤ المعادلات اللبنانية القائمة حتى إشعار آخر. مع هذا، ثمة واقع يفرض نفسه منذ فترة: ان السياسة، في الداخل اللبناني، تقريباً كلها، باتت سياسة "المتابعة" للمسائل والاحداث الاقليمية، والسؤال عن أثر هذه التطورات على الداخل الذي يتكرّر بطبيعة الحال كل يوم تظل ايجابيته غامضة، مشتتة. بشكل إجمالي، الاعتبارات الخارجية لا تميل في الوقت الحالي لا الى توتير زائد للوضع الداخلي، ولا الى فتح أي ثغرة عملية باتجاه تسووي في الداخل.