طوني فرنسيس&

كان الأمير بشير الشهابي الثاني أبرز شخصيات جبل لبنان في القرن التاسع عشر. قيل فيه وعنه الكثير ولا يزال اسمه يذكر بوصفه رجلاً قوياً بطاشاً مهاباً ساهم في بناء تاريخ بلده الحديث. إلا أن الصورة الحقيقية هي غير ذلك، فالمير كان حصيلة كمية من الألاعيب المحلية على حبال ولاة عكا ودمشق، وعندما دخل آخرون على الخط انتهت اللعبة ومعها المير العظيم.


يصر السياسيون اللبنانيون على تذكيرنا بعصر الإمارة في جل ممارساتهم. لم تعد ولاية عكا (صيدا) موجودة، وورثتها إسرائيل في مرحلة من تاريخنا، فمارست دورها في مساومات الداخل وتركيباته، وورثت دمشق دور الولاة العثمانيين تاريخياً ولا تزال، وعلى امتداد الصراعات اللبنانية استقوى طرف بجهات عكا أو دمشق على طرف آخر: لجأت الحركة الوطنية إلى منظمة التحرير لكسر المعادلة الداخلية، فاستعان الخصوم بإسرائيل لدحرهم ... ثم تناوب الجميع على تقديم فروض الطاعة لدمشق، فقدمت البعض منهم وأبعدت البعض الآخر، في نوبات عمل جرى تنظيمها بدقة في مطبخ الوالي الجديد. ومع تعرض «الولاية الدمشقية» لمصاعبها الآنية برز دور حماتها الإيرانيين فبات هؤلاء جزءاً معتبراً في حفلة التحكم بمسيرة السياسيين اللبنانيين الطامحين.

ليست المسألة بحاجة لشروحات مطولة، ففي الأيام الأخيرة ربط الإفراج عن الحكومة بموقف جديد لحزب الله الذي يمثل الامتداد الدمشقي الإيراني إقليمياً إضافة إلى حضوره الفاعل كتنظيم لبناني، وفي إطلالته التلفزيونية الصريحة كالعادة أوضح الوزير السابق، المرشح لرئاسة الجمهورية سليمان فرنجية أن من قرر وسيقرر اسم الرئيس الحالي واللاحق هو حزب الله، والحزب في واقعه الحالي يختصر أدوار عكا ودمشق وصولاً إلى طهران التي ربما يصح تشبيهها بإسطنبول في أيام الخلافة العثمانية، وعلاقة الأخيرة بالجبل وإمارته.

... ثم نعود للأمير بشير الذي حكم 40 عاماً، قبل أن يسقط بين يد الثعابين، ويروى قصته أمام ممثل السلطان في إسطنبول حيث نفي، قائلاً (رواها مرافقه رستم باز ونشرها يوسف إبراهيم يزبك): خدمت وزراء مولانا في إيالة صيدا 55 سنة، وكنت أدفع الأموال المطلوبة مني في أوقاتها ولم أخالف لهم أمراً. وهم ثلاثة وزراء: أحمد باشا الجزار وسليمان باشا وعبدالله باشا، حتى دخلت سورية بحوزة محمد علي باشا. وهذا استخدمني 10 سنين حتى حضر عزت باشا ومراكب الإنكليز والنمسويين لطرد إبراهيم باشا... فارسلوا طلبوني للتسليم... فجاوبت عزت باشا والأميرال الإنكليزي: إني خاضع لأمركم، في أي وقت أخلص أولادي من إبراهيم باشا. ولما تم معي الأمر نزلت إلى صيدا وسلمت نفسي. فقالوا جئت متأخراً... فصار تنصيب بشير الثالث».

«جئت متأخراً» قالوا لأبرز أمير في تاريخ جبل لبنان... ونصبوا غيره. والتاريخ لا يزال يكرر نفسه على أيدي السياسيين اللبنانيين.