&محمد فايز فرحات&

هناك علاقة قوية بين الأزمات الإقليمية وظهور نظام عالمي جديد. في الماضي كانت الحروب العالمية تلعب الدور الأهم في هذا المجال، لكن مع صعوبة تكرار هذه الخبرة باتت الأزمات الإقليمية هي الأداة الأهم للإعلان عن التوازنات العالمية الجديدة. على سبيل المثال، كانت أزمة السويس 1956 كاشفة عن انتقال النظام العالمي ليس فقط من حالة تعدد الأقطاب إلى الثنائية القطبية بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لكن الانتقال أيضاً من مرحلة الحقبة الأوروبية إلى مرحلة بزوغ قوى أخرى من العالم الجديد، هي الولايات المتحدة. كذلك، كانت حرب الخليج الثانية (1991) كاشفة عن الانتقال من نظام عالمي ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة.


وقد ظل هيكل النظام العالمي أحادي القطبية مستقراً لفترة طويلة، لكن العقد الأخير شهد تحولات ضخمة في هيكل توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية في اتجاه صعود قوتين مهمتين، على حساب الهيمنة الأميركية، هما روسيا والصين، فضلاً عن التغير الحادث في هيكل المؤسسية الدولية، في اتجاه ظهور مؤسسات ومجموعات دولية جديدة باتت تلعب دوراً أكبر في إدارة التفاعلات الدولية (مجموعة العشرين، بريكس)، تلعب فيها الصين وروسيا واقتصادات ناشئة دوراً مهماً.

كان لهذه التحولات تأثيرها في اتجاهات تطور وإدارة عدد من الأزمات الإقليمية، التي يمكن الاعتماد عليها في استنتاج ملامح بنية النظام العالمي الجديد. كان أبرزها الحرب الروسيّة- الجورجيّة في آب (أغسطس) 2008. فعلى رغم أنّ هذه الحرب لم تدشّن اكتمال عمليّة التحوّل عن النظام أحادي القطبيّة، إلا أنها قامت بدورٍ مهمٍّ في هذا الاتّجاه من زاويتين؛ الأولى، أنّها دشّنت حالة من القطبية الثنائية على مستوى إقليم أوروبا الشرقيّة والخروج عن حالة التوافق والقواعد الدوليّة التي حكمت هذا الإقليم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، بخاصّة مبدأَي السيادة والتكامل الإقليمي، ما ضمن الاعتراف بالدول المستقلّة عن الاتحاد السوفياتي واندماجها في المجتمع الدولي. لقد مثّلت هذه الحرب خروجاً صريحاً من جانب روسيا عن هذا التوافق الدوليّ، أو بالأحرى التوافق الروسي–الأميركيّ. من ناحيةٍ ثانية، أعلنت روسيا، على خلفيّة هذه الحرب، عدداً من التوجّهات التي حكمت سياساتها الخارجيّة، حدّدها الرئيس ميدفيديف آنذاك في خمسة مبادئَ، عُرفت بـ «عقيدة ميدفيديف». نصَّ المبدأ الثاني منها على أنّ «العالم يجب أن يكون متعدّد الأقطاب. عالم القطب الواحد لم يعد مقبولاً. لن نسمح بالهيمنة. ولا يمكن أن نقبل بنظامٍ عالميّ تصنع فيه دولة واحدة جميع القرارات، حتّى ولو كانت دولة مؤثّرة مثل الولايات المتّحدة. مثل هذا العالم غير مستقرّ ومهدّد بالصراع». وجاءت أزمة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014 لتؤكد الاتجاه ذاته في هذا الإقليم.


ثم جاءت الأزمة السورية لتمثل الحلقة الأهم في تدشين عملية الانتقال تلك من خلال تأكيد الدور الروسي في هذه الأزمة، من ناحية، ووجود درجة من التنسيق الروسي- الصيني، من ناحية ثانية، بخاصة خلال المراحل الأولى من الأزمة في شكل عدم تمرير أية قرارات أممية من شأنها تفويض الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي باستخدام القوة العسكرية ضد النظام السوري، في شكل صريح أو ضمني -على عكس ما حدث في الحالة الليبية عندما امتنعتا الصين وروسيا عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 1973- ثم استغلال الصين الأزمة لتأكيد حضورها العسكري (الرمزي) في المنطقة، جاء ذلك من خلال إرسالها قطعاً حربيّة إلى البحر المتوسّط خلال شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2012، وهي المرّة الثانية التي ترسل فيها الصين قطعاً عسكريّة بحرّية إلى البحر المتوسّط خلال عام 2012. كانت الأولى أثناء الثورة الليبيّة عندما أرسلت سفناً وطائراتٍ حربيّةً لإجلاء رعاياها من ليبيا، في مؤشّرٍ مهم على تحوّلٍ في السياسة الصينيّة إزاء مسألة إرسال قطع عسكرية خارج مجالها الإقليمي.

ومع تراجع الدور الصيني نسبياً في هذه الأزمة، لكنها كشفت في شكل واضح عن هيمنة روسية على الأزمة، بجانب بعض الحلفاء الإقليميين (تركيا وإيران)، سواء في ما يتعلق بالتوازنات العسكرية على الأرض، أو مسارات التسوية التي نجحت روسيا في إعادة هيكلتها. ومع أن انتكاس الاتفاق النووي الإيراني وبدء أزمة جديدة بين إيران والولايات المتحدة، تسعى فيها الأخيرة– بالتعاون مع إسرائيل وقوى إقليمية أخرى- إلى «تجفيف» النفوذ الإيراني في الإقليم، الأمر الذي قد يؤدي إلى التأثير في توازنات القوى العالمية القائمة في هذا الصراع، لكن هذا الاستنتاج ليس دقيقاً، فالصراع الأميركي- الإيراني يخضع لحسابات أميركية تختلف نسبياً عن تلك التي يخضع لها «الصراع» الأميركي- الروسي، كما أن إخراج إيران من الصراع في سورية يتوافق إلى حد كبير مع المصالح الروسية.

خلاصة القول، إذن أن أزمة الحرب الروسية- الجورجية، ثم أزمة القرم 2014، ثم الأزمة السورية الجارية، هي أزمات كاشفة إلى حد كبير عن صعود الدور الروسي، وتحول النظام العالمي بعيداً من نمط النظام أحادي القطبية.

على الجانب الآخر، وفي الشرق الأقصى، طُرحت أزمة كوريا الشمالية، على أنها نموذج على صعود الصين كقوة عالمية. فقد ظلت الصين- وفقاً للخطاب الأميركي حتى وقت قريب- هي البوابة الرئيسية لتسوية الأزمة الكورية. كما ظلت الصين صاحبة الدور الأبرز في هندسة الإطار الخاص بإدارة الأزمة الكورية، والمتمثل في المحادثات السداسية (2003- 2009)، وحائط الصد أمام إمكانية استخدام القوة العسكرية ضد نظام بيونغ يانغ، وربما –وفق تحليلات غربية عدة- الداعم والغطاء الدولي الرئيس للنظام لتطوير قدراته النووية والصاروخية والالتفاف على العقوبات الاقتصادية. بمعنى آخر – ووفق تحليلات عدة- فقد نشأ افتراض بأن الصين تستخدم الأزمة الكورية كورقة أساسية لإجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بدور صيني في النظام العالمي، والتحكم في التوازنات الاستراتيجية في منطقة آسيا- المحيط الهادئ، وعدم تسوية هذه الأزمة بمعزل عن المعضلات الأمنية الأخرى (النزاع في بحر الصين الجنوبي، النزاعات الحدودية البحرية بين الصين واليابان، المناورات العسكرية الأميركية في المنطقة، صعود القومية اليابانية واحتمالات إعادة النظر في الدستور الياباني والدور الخارجي للعسكرية اليابانية، وقضية تايوان).

لكن قراءة دقيقة للتطورات والانفراجة الراهنة على مستوى علاقات بيونغ يانغ- سيول، أو بيونغ يانغ- واشنطن، وبغض النظر عن حجم الدور الصيني في هذه العملية، لكن حقائق مهمة تشي بها هذه التطورات، أبرزها هو تراجع دور الصين لمصلحة تصاعد دور كوريا الجنوبية (حليف الولايات المتحدة). كان ذلك واضحاً في حلحلة الأزمة من خلال بدء عملية «تطبيع» كورية- كورية، والدور الذي لعبه الرئيس مون جاي-إن في إنقاذ قمة ترامب- أون. كما كان ذلك واضحاً أيضاً في ما نص عليه بيان القمة الكورية- الكورية (نيسان- أبريل 2018) من اعتماد آلية المحادثات الثلاثية (الولايات المتحدة والكوريتين) كإطار رئيسي لإدارة عملية إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، الأمر الذي يؤسس ليس فقط لإمكانية استبعاد الصين من هذه العملية، ولكن أيضاً عدم ربط هذا الملف بغيره من الملفات الأمنية السابقة ذات الأهمية للصين. الأمر ذاته بالنسبة لروسيا، ففي الوقت الذي ضمنت آلية المحادثات السداسية سابقاً دوراً روسياً في إدارة المعضلة الأمنية في إقليم شمال شرقي آسيا المجاور لها مباشرة، فإن العملية الجديدة المرتقبة لا تضمن لها هذا الدور. بمعنى آخر، فإن الأزمة الكورية تشير -حتى الآن- إلى استمرار هيمنة الولايات المتحدة على بنية النظام في آسيا المحيط الهادئ. وهو تحول سيتأكد في حالة نجاح الانفراجة الراهنة في نزع السلاح النووي والقدرات الصاروخية الكورية.

وهكذا، وكما تشير إليه تطورات هذه الأزمات الإقليمية، فإننا نصبح أمام استنتاجات عدة. الأول، أن هذه الأزمات لا تمثل شرطاً كافياً للكشف بعد عن طبيعة النظام العالمي الجديد، وأن جملة من التفاعلات والتحولات ما زالت ضرورية للوصول إلى الهيكل النهائي للنظام، بخاصة في ظل التباين بين ما تكشف عنه أزمات جورجيا، والقرم، وسورية، من ناحية، والأزمة الكورية من ناحية أخرى. الاستنتاج الثاني، أننا إزاء «نظامين عالميين»، نظام يقوم على الثنائية القطبية في بعض الأقاليم، بينما لا يزال القطب الواحد هو النمط الغالب في أقاليم أخرى. الحديث عن «نظامين عالميين»، قد يبدو مفهوماً غير منضبط لكنه ربما يفسر لنا الكثير من أوجه التناقض وعدم وضوح السياسات العالمية في الكثير من الأقاليم.