&مصطفى السعيد

&

عندما استسلمت القوات الفرنسية أمام المقاتلين الفيتناميين بعد معركة ديان بيان فو عام 1956 قال الزعيم الفيتنامي هوشي منه: لقد انتصرنا على الفرنسيين دون أن نخسر أي دبابة أو طائرة، لأننا ببساطة لم يكن لدينا طائرات أو دبابات، ولم تتعظ الولايات المتحدة من أن قوات فيتنامية محدودة التسليح هزمت فرنسا، وكان لديها قوة صغيرة في جنوب فيتنام، فبدأت في زيادة أعداد قواتها، لتحل محل القوات الفرنسية المهزومة، وتدعم الحكومة الموالية للاحتلال في الجنوب، وتخوض إلى جانبها حربا شرسة، انتهت بهزيمة مدوية للولايات المتحدة على أيدي القوات الفيتنامية، وانسحبت من جنوب فيتنام عام 1975، لكن العقدة الفيتنامية تجددت عدة مرات، الأولى في بيروت عام 1983 عندما تعرضت قوات المارينز والقوات الفرنسية لهجوم مزدوج بشاحنتين تحملان أطنانا من المتفجرات، لتدمر مقريهما تماما، وتجبر قوات المارينز والقوات الفرنسية على الهروب إلى البحر، لتلتقطها البوارج، وهو ما تكرر مرة أخرى في الصومال بعد نحو 10 سنوات في عهد جورج بوش الأب، عندما سيطرت القوات الأمريكية على العاصمة الصومالية مقديشيو تحت لافتة تقديم مساعدات إنسانية، لكن الصوماليين تشككوا في نياتها، وهاجموا القاعدة العسكرية في مطار مقديشيو، وقتلوا وسحلوا عددا من الجنود في الشوارع، وتخرج القوات الأمريكية من الصومال سريعا، ومرة أخرى يكرر جورج بوش الابن المغامرة في العراق، الذي ظن أن بإمكانه تتويج الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم باحتلال أهم منابع النفط، وقرر غزو العراق تحت غطاء هجمات 11 سبتمبر ووجود أسلحة دمار شامل،

ونجح في احتلال العراق عام 2003، لكن القوات الأمريكية لم تصمد أمام المقاومة الشرسة، لتنسحب عام 2011، لتتأكد من أن عودة الاستعمار القديم أصبح مستحيلا. إن السعي لإعادة الاستعمار القديم يصطدم بالكثير من العقبات، فانتقال تكنولوجيا السلاح أصبحت أسهل بكثير من السابق، وقد شهدنا أن قطاع غزة المحاصر تماما برا وبحرا وجوا أصبح بإمكان سكانه تصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة، بل إن أطفال غزة استخدموا الطائرات الورقية في إشعال محاصيل المستوطنات الإسرائيلية القريبة، ورغم التفاوت الهائل بين مستوى التسليح الإسرائيلي المعتمد بالأساس على أرقى تكنولوجيا يقف عاجزا أمام الطائرات الورقية، وأصبح احتلال قطاع غزة مغامرة خطيرة وباهظة التكاليف عن الأزمنة السابقة، وإذا أضفنا أن الأسلحة المتوسطة التي أصبحت أكثر تطورا مثل صاروخي الكورنيت والتاو المضادين للدروع، فإن القوات البرية التقليدية تعاني مخاطر جسيمة، بل إن القوات الأمريكية في العراق واجهت معضلة ضخمة وخسائر جسيمة أمام الألغام التي تم استخدام أدوات بسيطة في تصنيعها مثل أجهزة الهاتف المحمول المتصلة بالعبوات الناسفة، وجعلت منها سلاحا خطيرا. أما المتغير الأخطر الذي تواجهه أمريكا فهو الزيادة الكبيرة في عدد الدول التي تمتلك صواريخ باليستية بعيدة المدى، من الهند إلى كوريا الشمالية وباكستان وإيران وغيرها، ولا يمكن للولايات المتحدة منع دول أخرى من امتلاك مثل هذه الصواريخ التي تراها الولايات المتحدة أخطر سلاح يهدد تفوقها، فيمكن للدول الفقيرة أن تمتلك سلاح ردع فعالا، ولم تعد هناك حاجة لأن تمتلك الدول حاملات طائرات باهظة الثمن لكي تتمكن من تهديد دولة بعيدة، فالصواريخ الباليستية يمكنها ذلك بأقل التكاليف، خصوصا مع الانتقال السريع لتكنولوجيا تصنيع وتوجيه هذه الصواريخ، التي يعتمد أغلبها على الأقمار الصناعية، مثلما ترتبط الهواتف المحمولة بتلك الأقمار لتحديد أي نقطة في العالم وسبل الوصول إليها، وهو ما تحتاجه تلك الصواريخ لتكون بالغة الدقة، ولهذا نجد الانزعاج الأمريكي الشديد من برامج كوريا الشمالية وإيران، وفرض عقوبات اقتصادية عليهما لوقف تطوير أو امتلاك هذا النوع من الأسلحة، حتى لو لم تكن قادرة على حمل رؤوس نووية،

إن الولايات المتحدة أمام معضلة كبيرة أمام تلك التطورات التقنية، التي تفقد جيشها الكبير الكثير من عوامل التفوق والهيبة، وهو الذي ينفق أكثر من 700 مليار دولار سنويا، ويكاد لا يستطيع إلا أن يكون جيشا للردع، مثله كأي جيش لباقي الدول الكبرى والمتوسطة، ولا يضمن التفوق الكبير الذي يتناسب مع حجم الإنفاق عليه، ولهذا فإن الولايات المتحدة أمام معضلة اقتصادية وعسكرية، فهي إما أن تقلص جيشها، وتوفر تلك النفقات الهائلة لتضخها في الاقتصاد، وإما أن تواصل سياسة منع باقي الدول من استخدام أسلحة فعالة، وهو طريق سيؤدي حتما إلى صدامات عنيفة، فهي لا يمكن أن توسع من نطاق العقوبات الاقتصادية لتشمل كل الدول الساعية إلى تطوير أسلحتها التقليدية، ولا يمكن أن تخوض حروبا معها، وهو ما يعني أن تبقى القوات الأمريكية مجرد رمز للقوة، دون أن تكون قادرة على ربح الحروب الكبيرة، أو السيطرة على أراضي الدول الصغيرة.