&محمد السعيد إدريس

رغم كل الجنوح الذى يكتنف الموقف الذى تنتهجه الإدارة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب فى تعاملها مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلى وهو موقف الانحياز المطلق الذى لم يعد يفصل كثيراً بين ما هو مصلحة أمريكية وما هو مصلحة إسرائيلية، فإن للرئيس الأمريكى أيضاً «شطحات» استثنائية وهى حتماً غير مقصودة، وكثيراً ما تكون «ذلة لسان» من هذه الشطحات الاستثنائية إشارة ترامب إلى «الثمن» الذى يجب أن تدفعه إسرائيل مقابل حصولها على القدس، وهى زلة اللسان التى استدعت جون بولتون المستشار الأمريكى للأمن القومى وديفيد فريدمان السفير الأمريكى لدى إسرائيل للتدخل لتهدئة روع الإسرائيليين وتأكيد أن الرئيس الأمريكى لا يقصد ضرورة أن تدفع إسرائيل ثمن حصولها على القدس، لكن ما كاد يفرغ بولتون وفريدمان من مهمتهما تلك حتى جاء حديث ترامب فى لقائه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نيتانياهو، عن خيار «الدولة ثنائية القومية» إذا تعثر خيار «حل الدولتين».

هذه المرة كانت الزوبعة، أشبه بالعاصفة داخل الكيان الصهيوني، الذى لا يرى مستقبلاً للفلسطينيين إلا الكونفيدرالية مع الأردن (خيار الوطن البديل) أو خيار الحكم الذاتي، لكنه يرفض بالمطلق كلاً من خيارى حل الدولتين، والدولة ثنائية القومية، بل إنه يتعامل مع الخيار الأخير، أى «الدولة الواحدة ثنائية القومية» التى تضم الشعبين اليهودى والفلسطيني، باعتباره «خياراً انتحارياً»، لا يعنى إلا تصفية المشروع الصهيونى بكاملة، اعتقاداً منهم أن الشعب الفلسطينى يملك قدرات هائلة على الزيادة السكانية بمقدورها أن تحول تلك الدولة إلى دولة للشعب الفلسطينى تعيش فيها أقلية يهودية.

وانطلاقاً من إدراك هذا الخطر، أى خطر احتمال فرض خيار «الدولة ثنائية القومية» إذا ظلت إسرائيل تماطل وترفض خيار «حل الدولتين»، وإدراكاً للتطورات الجديدة فى الواقع الدولي، ناهيك عن تطورات الواقع الشعبى الفلسطينى المتصاعد والمتمسك بالحقوق فى الأرض كما تظهرها «مسيرات العودة» التى أخذت تتحول إلى «التحام مع العدو» على طول خطوط التماس مع الكيان الصهيونى بادر «معهد بحوث الأمن القومي» فى إسرائيل بطرح رؤية يعتبرها «جريئة» و«متجاوزة للخطوط الحمراء» هدفها النهائى تكريس وجود إسرائيل كدولة قوية ومستقرة، وإبعاد شبح أو كابوس خيار «حل الدولة ثنائية القومية» إبعاداً نهائياً، وذلك بطرح «مشروع عمل» يستهدف تهيئة الأوضاع الفلسطينية لقيام دولة فلسطينية فى المستقبل لا يكون ضمن أهدافها، ولا ضمن قدراتها تهديد وجود الدولة الإسرائيلية.

وتستند هذه الرؤية على فرضيتين مهمتين؛ الأولى، أن الاتفاق الدائم ليس ممكناً فى السنوات القريبة المقبلة بين إسرائيل والفلسطينيين. فكل من الطرفين ليس فى مقدوره تحمل أعباء وتبعات ومتطلبات هذا الحل الدائم، الذى يجب أن يتعرض بالضرورة لأخطر القضايا الخلافية حساسية بين الطرفين: القدس والحرم، وحق عودة اللاجئين ومستقبل المستوطنات، وبالتالى لا مهرب من اعتماد «صيغة متعددة المسارات» مع أفق واضح وأدوار وضمانات ومشاركات دولية وإقليمية يكون فى مقدورها جميعاً الوصول بالأوضاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى حالة تسمح بانفصال سياسى وإقليمى (أرضي).

أما الفرضية الثانية فهى أن الخطر على إسرائيل لم يعد فلسطينياً فحسب، بل أضحى إقليمياً فى ظل المتغيرات الجديدة الخاصة بـ«الجبهة الشمالية». فالإسرائيليون يتابعون باهتمام احتمال نجاح إيران وحلفائها فى تأسيس جبهة شمالية قوية تفوق فى خطورتها الجبهة الجنوبية التى تمثلها فصائل المعارضة فى قطاع غزة وخاصة حركة «حماس» فهم فى إسرائيل يعتبرون هدفهم الإستراتيجى الآن هو: منع تثبيت وجود إيرانى قوى فى سوريا ولبنان، هذه الفرضية الثانية تعنى أن على إسرائيل سرعة احتواء «الخطر الفلسطيني» الذى تراه خطراً لا يقارن بالخطر الجديد الذى يتأسس فى الجبهة الشمالية الذى يفرض تفرغاً إسرائيلياً لمواجهته عبر تحالف مع الدول العربية المعتدلة، وهذا التحالف لن يحدث دون التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية.

هاتان الفرضيتان أسستا للرؤية التى أعدها معهد بحوث الأمن القومى الإسرائيلى لتحقيق تسوية متعددة المراحل مع الفلسطينيين بقيام دولة فلسطينية «مأمونة العواقب» عبر صيغتين واحدة تخص الضفة الغربية والأخرى تخص قطاع غزة، وفق مجموعة من المبادئ أبرزها بالنسبة للضفة أولوية وشمولية الاعتبارات الأمنية والمصالح السياسية لإسرائيل، بحيث يسيطر الجيش الإسرائيلى على كل الأرض الممتدة من غرب الأردن إلى ساحل المتوسط، مع سيطرة إسرائيلية حصرية على غور الأردن والمعابر والمواقع والمحاور الإستراتيجية. يأتى بعدها إعلان إسرائيلى يلتزم بقيام دولة فلسطينية يتم بإجراءات عملية لتأسيس البنى التحتية اللازمة والضرورية لقيام هذه الدولة.

من أهم هذه الإجراءات نقل صلاحيات أمنية فى المنطقة (ب) إلى السلطة الفلسطينية بحيث تكون هاتان المنطقتان (أـ ب) مرتكز البنية التحتية للدولة الفلسطينية المستقبلية، وربما (أ) التى تسيطر عليها السلطة الفلسطينية «يصبح دولة فلسطينية فى حدود مؤقتة» تقع على قرابة 40% من الضفة الغربية ويسكنها 98% من السكان الفلسطينيين تقريباً، يتبعها تخصيص إسرائيل 25% من أراضى المنطقة (جـ) الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية لتنمية بنى تحتية ومشاريع اقتصادية لتشجيع الاقتصاد الفلسطيني، مع إقامة تواصل بين كل مناطق الضفة، وإطلاق خطة اقتصادية يكون هدفها ، فى المدى القصير، تحسين مستوى المعيشة للفلسطينيين، أما بالنسبة لقطاع غزة، فهو خارج اهتمامات هذه الخطة.

هذا المشروع، أو الخطة «يتحسس الكلمات، ويتبنى خيار حل الدولتين بشروط إسرائيلية وعلى مدى زمنى يضمن لإسرائيل مصالحها الأمنية، ويمكنها من التفرغ لمهام تراها أكثر إستراتيجية وتتمحور فى منع قيام جبهة شمالية تقودها إيران فى سوريا ولبنان، وفى تأسيس التحالفات الإقليمية التى تضمن لإسرائيل تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب تحت غطاء مواجهة المخاطر المشتركة، ويبدو أن هذا هو الهدف الرئيسى من الخطة: احتواء الخطر الفلسطينى للتفرغ لمواجهة الخطر الإيرانى ضمن «إستراتيجية عزل الصراعات».