في صمت رحلت قبل أيام قليلة المخرجة عطيات الأبنودي، صاحبة فيلم «حصان الطين» والذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما التسجيلية المصرية. فلقد ظلت السينما التسجيلية المصرية (حتى أواخر الستينات من القرن العشرين) تقدم أفلاماً تقتصر أو تكاد - على الأحداث المهمة والاحتفالات الوطنية والدينية والشعبية، وتقديم الشخصيات القيادية وملاحقة الإنجازات الحكومية، والآثار والفنون التشكيلية وما شابه ذلك، بعيدة كل البُعد من أحوال الناس وهمومهم، حتى جاءت عطيات الأبنودي لتقدم فيلم «حصان الطين»1971، الفيلم الذي يحمل رؤيتها الذاتية بعد أن كان المخرج يعبر عن رؤية ممول الفيلم. في هذا الفيلم قدمت الأبنودي موضوعها الأساسي حول الطبقة الدنيا من فقراء الناس المُهمشين. وكان ذلك عبر نظرة تحمل وجهة نظر نقدية لأوضاع المجتمع الطبقية.


تيار سينما الغضب

وهي أتبعت «حصان الطين» بأفلام مماثلة خلقت بها تيارًا جديدًا غير مسبوق في السينما التسجيلية المصرية، ما جعلها رائدة لهذا التيار، الذي يمكن تسميته «تيار سينما الغضب التسجيلية» أو «تيار السينما التسجيلية النقدية»، وفيه تكشف عن الأوضاع المهينة التي يعيشها الفقراء والمهمشون في المجتمع المصري. وما يؤكد ريادتها لهذا التيار أن مخرجين آخرين أخذوا عنها هذا الاتجاه، الذي سرعان ما أصبح أحد التيارات البارزة في مسار السينما التسجيلية المصرية.

كان «حصان الطين» إذاً، أول أفلامها وأول أفلامنا التسجيلية الناقدة لبعض الأوضاع الاجتماعية والإنسانية، عبر الكشف عن معاناة الرجال والنساء والأطفال في عملهم الشاق داخل قمائن الطوب، يشاركهم حصان في خلط الطين، وفي نهاية يوم العمل، ما أن تُرفع الغمامة عن عيني الحصان حتى ينطلق بعيداً من صاحبه، خوفاً أو تمرداً منه على ظروف العمل الشاقة، وبقدر ما يثير هذا الموقف من الحصان روح التمرد على العمل، يرمز إلى الأمل بالتخلص من هذا العمل المُضني.

وفي فيلم «أغنية توحة الحزينة» 1972، تكشف عطيات عن معاناة فرقة استعراض شعبية تقدم فقراتها على الناس في الشوارع والحواري، ويتضمن الفيلم قصيدة تعبر عن مرماه كتبها عبدالرحمن الأبنودي «الدنيا كورة، والكورة فيها ناس... قاعدة تتفرج على ناس... حزين يا قلبي... حزين يا قلبي ولا سعيد، والبيت قريب ولا بعيد... ولا الهنا ليه يا زمان ناس... والهم ليه ناس، وناس بتتفرج على ناس... والدنيا كورة».

البحث عن الفقراء

وعندما أتيح لعطيات منحة لدراسة السينما التسجيلية في إنكلترا، بحثت عن الفقراء وصنعت عنهم فيلم «سوق الكانتو» 1973، حول أولئك الذين يعانون من الفقر فيلجأون إلى شراء الملابس المستعملة من سوق الكانتو. فتكشف بذلك عن الطبقية التي يعاني منها الفقراء.

وفي «ساندوتش» 1975، نرى طفلاً يحاول أن يرطب رغيف الخبز الجاف، بكمية من اللبن يحلبها من ضرع المعزة، بينما المعزة، التي احتضنها، أثناء الحلب، تسطو على النصف الآخر من الرغيف، الفيلم تعبير رمزي رفيع عمّا وصل إليه الفقراء من جوع، ولا يخلوا من روح فكاهية ساخرة.

وفي فيلم «التقدم إلى العمق» (1979)، تتحول عطيات من التركيز على معاناة الفقراء، إلى التأكيد على قدرتهم الإبداعية في مواجهة مصاعب الحياة، ويحتشد الفيلم بوجوه الأطفال التي تنطق بالجمال على الرغم من عيونهم الحزينة، كما يؤكد أيضاً في شاعرية رقيقة على روح التسامح والإخاء بين المسلمين والمسيحيين في صعيد مصر، الذين يحملون نفس الوجوه، و الأسماء، و الأحوال. (تم عمل الفيلم بمنحة من جمعية أبناء الصعيد المسيحية للمدارس والتنمية الاجتماعية «كاريتاس»).

... وعطش البائسين

وتعود عطيات إلى موضوعها النقدي الأثير، في فيلم «بحار العطش» (1980)، حيث تصوّر قرية تطل على مساحات واسعة من مياه البحر المالح ولكنها محرومة من أي مصدر للمياه العذبة، فتحاول النساء العثور عليه عبر حفر الآبار، ولكن هذه لا تقدم لهن غير مياه ملوثة، وينتظرن يومياً قدوم عربات المياه العذبة التي يشترونها من أماكن أخرى ولكنها لا تكون كافية.

وإذا كانت عطيات الأبنودي في معظم أفلامها تحمل وجهة نظر نقدية للأوضاع التي يعاني منها الفقراء في المجتمع نجدها في فيلم «الأحلام الممكنة» (1982)، تقدم نموذجاً إيجابياً لهؤلاء الفقراء الذين يحاولون تجاوز الظروف الضيقة التي تكبل حركتهم وتفسد حياتهم، بالإصرار على تحقيق أحلامهم التي تحررهم ولو نسبياً من هذه الحياة الضيقة. حيث نرى في الفيلم المرأة التي تتحمل شظف العيش ولكنها تصر على إلحاق ابنتها بالتعليم، على رغم اعتراض الأب. وينتهي الفيلم بالابنة تدق بأصابعها على الآلة الكاتبة داخل أحد الفصول في المدرسة.

وفي فيلم «إيقاع الحياة» (1988) تتجه عطيات لصنع فيلم عن الحياة المصرية في أربع لوحات مختلفة؛ الأولى «شئون الحياة»، الثانية «من يحافظ على التراث؟»، الثالثة «بين ضفتي النهر»، والرابعة والأخيرة «الميلاد/ الموت/ الفرح». ما نراه من خلال اللوحات الأربعة يحمل وجهة نظرها في مظاهر الحياة المختلفة في مصر، التي نراها بطيئة رتيبة تتجاوزها الحياة المدنية السريعة، ولعل مشهد المرأة العجوز التي تحاول ركوب السيارة فتتعثر وتسقط على الأرض، بينما تمضى السيارة مسرعة دون أن تنتظرها أو ينظر أحد وراءه على من سقطت، هي خلاصة رمزية لوجهة نظر المخرجة لهذه الحياة المصرية. وهو ما يحمل وجهة نظر نقدية لم تتخلّ عنها عطيات، وإن اتخذت اتجاهاً آخر، لا يخص الفقراء وحدهم، وإنما يشمل مظاهر الحياة وطقوسها المختلفة.

ففي فيلم «نساء مسئولات»، 1994، لا تكتفي المخرجة بنقد أوضاع الفقراء في المجتمع، ولكنها تقدم ثلاثة نماذج إيجابية تقاوم هذه الأوضاع وتتغلب عليها، نلتقي مع سناء، طلقت مرتين، فتعمل في مصنع لمشغولات الزينة للنساء. ثم نقابل صابرين الكوافيرة التي تعمل لتعول أباها المريض وأختها المُطلقة التي عادت إلى الأسرة بأولادها، ثم أم أشرف عاملة الكاراج التي هجرها زوجها وتركها وحدها لأطفالها.

ويأتى فيلم «راوية»، 1995، عن الفتاة المصرية التي استطاعت تحقيق ذاتها رغم الظروف القاسية، حيث التحقت هي واختها الصغرة بمصنع لصناعة الخزف. واكتشفت عبر عملها موهبتها في صناعة ابداعات فنية سمحت لها بالاشتراك في معارضٍ دولية. أما فيلم «أيام الديموقراطية»، 1996، فيكشف عن جهود المرأة المصرية في أن يكون لها دور فاعل في المجتمع من خلال انتسابها إلى البرلمان. ويجمع فيلم «بطلات مصريات»، 1997، بين عشر فقرات إعلانية قصيرة عن محو أمية البنات والنساء في القرى الريفية البعيدة. الفيلم يؤكد «العلام مالوش سن.. انت بتتعلم وقت ما تحب تتعلم»، كما أوضحت ذلك إحدى النساء داخل الفيلم.

لم يكن طريق عطيات الابنودي – بخاصة في أفلامها الأولى - ممهداً. فقد واجهت اتهامات كثيرة في مقدمتها الاتهام الجاهز بالإساءة إلى سُمعة مصر، تلك التهمة التي كانت تصيب أي فنان أو صاحب رأي بالرعب. وأدى ذلك إلى اصطدامها بالكثير من العقبات وعرقلة عملها أكثر من مرة، ولكنها أصرّت على موقفها، على رغم كل ما تعانيه من مقاومة المنافقين المُحيطين بالسُلطة وهي حُرمت من العمل في التدريس بمعهد السينما، على رغم حصولها على الشهادات المطلوبة، وتؤيدها أفلامها التي حصلت على عدد من الجوائز الدولية. كما أنها لم تنجح في الحصول على أي دعم لأفلامها من الحكومة، والأصح أنها لم تطلب ذلك أصلاً، واعتمدت على تكوين شركتها الخاصة لإنتاج الأفلام، وبعض المعونات التي كانت تتلقاها من بعض مؤسسات المجتمع المدني.

واستطاعت أن تقدم نموذج للمخرج التقدمي عبر نظرتها لأحوال المجتمع نظرة نقدية إلى جانب إبرازها لما تجده من إيجابيات تصل إلى حد البطولة للشخصيات المصرية العادية. وكانت عطيات الأبنودي هي الأيقونة النموذج القدوة في الكفاح ضد معوقات الحياة والنجاح في تحقيق أحلامها.