&هادي اليامي& & &

الشعب السوداني الذي لم يعهد الارتزاق، يعلم جيدا من واقع التجربة التاريخية أهمية التمسك بهذه العلاقة التي امتدت أكثر من 50 عاما، وتطورت عبر كل التحولات التي عايشوها

رغم أن المملكة العربية السعودية تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مستقرة وثابتة مع كل دول العالم، لا سيما العربية والإسلامية، انطلاقا من ثقلها السياسي والاقتصادي كدولة قائدة في المنطقة، ومن مكانتها الروحية المتفردة كحاضنة للحرمين الشريفين، وأرضا للرسالة الإسلامية، إلا أن العلاقات السعودية السودانية ظلت متفردة طوال العقود الماضية، وحافظت على خصوصيتها -رغم تغير الحكومات والرؤساء في السودان- ولم يكتب التاريخ أن تلك العلاقات تأثرت يوما أو ضعفت أو شابها الفتور، رغم تعرجات السياسة وتعقيداتها، ويعود السبب في ذلك إلى أمور كثيرة، في مقدمتها إدراك قادة المملكة لطبيعة الإنسان السوداني المتفردة، والتي تميزه عن غيره من كثير من شعوب الأرض، وقناعة الرياض الراسخة بأن الإمكانات الزراعية الهائلة التي يمتلكها السودان من أراض خصبة، ومياه وفيرة، وأيدٍ عاملة ذات كفاءة، كفيلة بأن تجعل أرض النيلين سلة غذاء العالم العربي، وهي القناعة التي ترجمها الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- الذي أعلن مبادرته للاستثمار الزراعي في الخارج، والتي وضع فيها السودان في مقدمة الدول المستهدفة بتلك المبادرة، وهو النهج الذي عزّزه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وحرص على تشجيعه وتطويره.
كذلك من أسباب الحفاظ على تلك العلاقات المميزة، أن الشعب السوداني المتدين بطبعه، ينظر إلى أرض الحرمين الشريفين نظرة خاصة، وتهفو قلوب معظم أفراده إلى زيارتها، ورؤية الأماكن المقدسة وأداء الشعائر الدينية، كما يحفظ المواقف المشرقة لقادة المملكة الذين لم يتوانوا في الوقوف معه ودعمه في كل الظروف، وهي المواقف التي لم ينسها الشعب الذي عرف بالوفاء وحفظ الجميل.&


لذلك كله، فقد لمست بنفسي خلال زيارتي السودان -الأسبوع الماضي- ضمن وفد لجنة الصداقة البرلمانية السعودية السودانية في مجلس الشورى السعودي، حجم التقدير الذي يكنّه الشعب السوداني ومسؤولوه للمملكة حكومة وشعبا، ومقدار الترابط الذي يجمع بين الجانبين.&
فقد تسابق أبناء السودان على إكرامنا والحفاوة بنا، في تصرفات عفوية كسرت البروتوكول المتبع في مثل هذه الزيارات.
وأسرَّ لي بعض من جمعتني بهم الزيارة، بأن قرار حكومة الخرطوم بقطع العلاقات مع إيران، عقب الاعتداء على السفارة السعودية بطهران، كان من أكثر القرارات التي وجدت تأييدا غير مسبوق من الشعب السوداني بكل طوائفه وأحزابه. لذلك ما إن عاد الرئيس عمر البشير من الرياض إلا ووجد جموعا غفيرة من شعبه وهي تستقبله في مطار الخرطوم.&
وأضاف محدثي، بأن مشاركة السودان ضمن عمليات عاصفة الحزم في اليمن كانت كذلك استفتاء شعبيا عفويا، فالجنود والضباط كانوا يتسابقون للمشاركة، إذ وجدوا فيها فرصة لرد الجميل، وتسجيل المواقف المشرقة.&
إضافة إلى قناعتهم الراسخة أنهم يسهمون في إعادة الحق إلى أهله، من شرذمة أرادت اختطاف اليمن للحضن الفارسي، وتهديد الأمن القومي العربي.
وخلال زيارتي الخرطوم أتيحت لي وزملائي زيارة شركة «زادنا» السودانية، وهي شركة عملاقة بمعنى الكلمة، تمتلك من المقومات ما يجعلها نواة لشراكة عربية موسعة في مجال الأمن الغذائي، فأنشطتها تتوزع بين الإنتاج الزراعي والحيواني والتصنيع، وهو ما يحتاجه عالمنا العربي.&
ويأتي هذا النجاح على الرغم من التحديات التي واجهت السودان جراء المقاطعة الاقتصادية.


ويدرك مسؤولو البلدين -حتما- التحدي الذي ينتظرهما بالحفاظ على أمن البحر الأحمر، وقطع الطريق أمام جهات مخربة تريد أن تفتعل المشكلات، وتبحث عن الاصطياد في الماء العكر، عبر تقديم إغراءات مشبوهة في صورة مشاريع اقتصادية مغرية، بحثا عن إيجاد مكانة مصطنعة تفوق حجمهم الطبيعي، وما درى هؤلاء طبيعة العلاقات المميزة بين البلدين، على كل الأصعدة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وما علموا أن الشعب السوداني الذي لم يعهد الارتزاق، يعلم جيدا -من واقع التجربة التاريخية- أهمية التمسك بهذه العلاقة الفريدة التي امتدت أكثر من 50 عاما، وتطورت بشكل سريع عبر كل التحولات التي عايشوها بأنفسهم، مما دفعهم إلى التأكيد أن علاقاتهم بالمملكة خط أحمر، لا يسمح بالاقتراب منه أو مجرد محاولة العبث به، لذلك رفضوا بصورة قاطعة المحاولات الفاشلة لبعض الفضائيات المغرضة، التي مارست كثيرا من الألعاب السياسية المفتعلة. حتى مشروع إعادة إعمار سواكن، والذي سعى البعض إلى تهويله وتصويره على أنه استهداف لعلاقات السودان مع المملكة من جهة، ومع مصر من جهة أخرى، كان رد الخرطوم واضحا وقاطعا بأنه مجرد مشروع اقتصادي سياحي، وأن كرامتها وسيادتها لا يسمحان لها بوجود قاعدة عسكرية لأي دولة أخرى على أراضيها.
إن كان من إشادة فهي في حق سفير خادم الحرمين الشريفين في الخرطوم، علي حسن جعفر، الذي أشاد جسورا متينة من التواصل الاجتماعي مع كل فئات المجتمع السوداني، فهو يذرع السودان جيئة وذهابا في كل المناسبات الاجتماعية، مهنئا ومعزيا ومواسيا، بدوافع إنسانية وأخوية، دونما أجندة سياسية، إضافة إلى اهتمامه الشديد بإثراء الحراك الثقافي، فلا تكاد تُنظَّم فعالية أو مهرجان، إلا وله فيها إسهام واضح وبصمة مميزة، فاستحق حب السودانيين وتقديرهم.


ختاما، يجدر القول إن من البُشريات بتطور هذه العلاقة مستقبلا تمسُّك مسؤولي البلدين بدفعها على كل المستويات، لا سيما الاقتصادية منها، ويبرز في هذا المجال مشروع طوكر، شرق السودان، الذي وقّعت فيه حكومتا البلدين على اتفاقية تقضي باستفادة المملكة من مساحة تقدر بمليون فدان زراعي، واستثمارها لـ99 سنة، مقابل قيام الجانب السعودي بتنمية المناطق المحيطة بمنطقة المشروع، وهي الاتفاقية التي سيبدأ التنفيذ الفعلي لها في القريب العاجل، حتى تكون ترجمة فعلية لمشاريع التعاون الاقتصادي التي تحمل الخير لأبناء الشعبين، وتأكيدا على المستقبل المزهر الذي ينتظرهما.

&