&عبدالله بشارة&

&في شهر سبتمبر 1971، كنت على غداء مع السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، جورج بوش، مع عدد محدود من السفراء، في مطعم لبناني متواضع اسمه «بيروت»، ولأول مرة أجلس بقربه يحدثني عن زيارة له إلى الكويت في منتصف الستينات، تتعلّق بقضايا نفطية، عندما كان له باع في العمل الخاص، وتطرّقنا إلى العمل في الأمم المتحدة، فأنا جديد وهو قبلي بعام واحد، ومن تلك اللقاءات وقفت على خيوط المشاعر التي تحرّكه، فهو انسان فوق السياسة، حريص على إبعاد تلوثها عنه وعازم، على أن يسعى لتقريب دبلوماسية أميركا إلى ما يؤمن به، وبعد أيام كان مجلس الأمن يجتمع حول قضية ارهابية أصابت بعض الأشخاص من بورتوريكو PortoRico، وهي جزء من الكومنولث الأميركي، كان السفير المصري المرحوم عصمت عبدالمجيد يتحدث في المجلس حول هذا الموضوع، كنت جالساً في قاعة مجلس الأمن، وأستمع إلى جورج بوش ينتقد مداخلة السفير المصري، ويعتبرها تدخلا في الشأن الداخلي الأميركي، ومع استغرابنا ذهب سفير مصر بهدوء إلى مقعد بوش؛ ليوضح له الموقف، ويطلب بوش الكلمة، معتذراً وبشكل فيه الكثير من الأسف؛ لأنه لم يفهم معاني الكلمة، كان اعتذار الواثق الواعي لخطئه.

هذا السلوك غير عادي في الأمم المتحدة، ومن مندوب أميركا صاحبة «الشنة والرنة» في قاعات الأمم المتحدة، كان اعتذاره يوحي بأنه غير السفراء المعتادين.


بعد أيام يتصل بي طالباً مني ألا أعارض طلب أميركا بتخفيض دعمها ميزانية الأمم المتحدة من %33 إلى %25 وكانت نغمة كلماته فيها التماس ورجاء، فتجاوبت ايجابياً معه.
ترك الأمم المتحدة إلى الصين، وكان سعيداً بهذه المهمة التي توافرت له بعد تصويت الأمم المتحدة على إعادة الصين الشعبية إلى مقعدها الطبيعي بدلاً من تايوان.
وحافظت على إرسال بطاقات الأعياد له ويرد بخط اليد مستذكراً الصداقة، ولا أنسى إشادته بالسفير الكويتي في الصين المرحوم قاسم الياقوت في تعبيرات كلها مودة انسانية.
عاد إلى السياسة الأميركية الداخلية، متطلعاً إلى الرئاسة وانضم إلى فريق ريغان كنائب للرئيس، وظل ثماني سنوات نائباً لريغان، كعنصر معتدل في فلسفة الحزب الجمهورية، وكانت أولوياته العمل الداخلي، تمهيداً للرئاسة مستقبلاً، مع الأسف كان بعيداً عن الملف الدبلوماسي الذي يهمنا، فمشاعره مع محنة الشعب الفلسطيني، ونبضه نحو إنصافهم، نزعته الدفاع عن ذلك، لكنه لم يكن في المنصة التي تمكّنه للتأثير.
في عام 1988، كان المرحوم الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، في زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، بعد أن تطورت العلاقات بين البلدين في انفتاح غير مسبوق، في ضوء الحماية الأميركية لحاملات النفط الكويتية.
وتلاقت شخصية بوش مع طبائع الشيخ سعد، فصار بينهما تفاهم المودة والاحترام، فأخذه لمشاهدة لعبة البيسبول الأميركية، كان الشيخ سعد يثني كثيراً على شخصية جورج بوش، فقد ربطهما لقاء الكيمياء..
عندما كنت في الرياض كأمين عام، كان الملك فهد يردد الاشادة بالرئيس جورج بوش كصديق فيه حميمية وله مصداقية وأكثر الرؤساء تفهّماً لقضايا العرب.
ومع الغزو، فتح الرئيس جورج بوش مخزونه الانساني ومواهبه القيادية، والتزاماته بالحق والعدل، وأعلن أن الغزو لن يستمر بنبرة صارمة فيها رسالة اطمئنان لنا، وإنذار لقيادة العراق، وتصغير لانتفاخ الغرور الذي دفع صدام الى مغامرة ليس ندّاً لها، ويحسمها سيد البيت الأبيض، وكان التفاهم بين جورج بوش والملك فهد عنصراً إضافيا للاطمئنان، تم تتويجه بقراره التاريخي في السادس من أغسطس، بوصول قوات أميركية كطلائع لقوة الائتلاف الدولي.
وانتهت التراجيديا التي بدأها صدام حسين بالتوقيع على الاستسلام في خيمة صفوان.


يبقى التساؤل الدائم عن وقف القتال مع انفتاح بغداد للقوات الأميركية وتوقّعات بدخولها واسقاط نظامها المتمرّد على القواعد الانسانية، وهو تساؤل طرحته شخصياً على مساعدي الرئيس بوش عندما جاءوا معه إلى لندن في عام 1993 في التجمّع العالمي حول الأسرى، وألقى الرئيس بوش خطاباً يؤكد الالتزام بكل ما في قرارات الامم المتحدة، لا سيما تحميل العراق مأساة الأسرى، وجاءت مارغريت تاتشر في خطاب آخر لتروي لقاءها مع بوش في ثاني أيام الغزو، كان أقرب مساعديه هما جيمس بيكر وزير الخارجية، والجنرال برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي، الذي قال إن منظر القتلى في معبر المطلاع هزت مشاعر الرئيس بوش الانسانية، فأمر بوقف الحرب بعد أن أنجز التحرير، بالاضافة إلى رغبته في الالتزام بقرارات مجلس الأمن، وليس الخروج عليها.


كانت فرصة نادرة تهيأت بانهيار الجيش العراقي، لكن عفته السياسية والانسانية طغت عليه، وضاعت فرصة نادرة لتبديل النظام السياسي الاقليمي وتخليص العراق من نظام الابادة والتوحّش، وترك صدام سنوات أخرى ليأتي ابن جورج بوش الأب ليحرر شعب العراق من «الميلودراما» العابثة.
لم يكن جورج بوش خطيباً جماهيرياً غوغائياً، كان رجل ذرابة في قطاع لا يعرف الذرابة، ويمارس السياسة بشعار الشهامة، في محيط أميركي اعتاد التراشق بالطين المعبأ بقذارة الألفاظ، وكان ارستقراطياً عفيفاً، لكنه لم يكن مالكاً للمسة الجماهيرية التي كانت لدى خصمه كلينتون فخسر الانتخابات، وزار الكويت عام 1993، وحدثتني زوجته باربارة انه حزين للخسارة وزيارته للكويت أسعدته، خاصة مع موجات الترحيب الرسمي والشعبي، الذي لم يكن يتوقع حرارته.
ثلاث حقائق لأمن الكويت، الترابط المصيري مع المملكة، تعميق التفاهم التاريخي السلس مع بريطانيا، تعميق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.. هذه الجهات الثلاث على علم بالمبايعة العالمية لسلامة الكويت.

&