&هالة القحطاني&

أصبح الالتزام بالقيم والأخلاق من أصعب التحديات التي تواجه العالم الآن وليس المنطقة العربية فحسب، بعد أن بات يُنظر للأدب كرمز للضعف والرجعية، في عصر أصبح الجاهل يتفاخر فيه بجهله باستغلال التطور المتسارع للتقنية الذي أحدث تحولات جذرية جرفت معها من دون قصد ثقافة غوغائية قدمت الهمجية والانحدار كـ«لغة» جديدة للتعبير عن الرأي، فأغرت الوقاحة والإسفاف عدداً كبيراً ممن كنا ننظر إليهم ببالغ الاحترام والتقدير بخلع رداء الأدب والذوق، والتشمير عن سيقانهم للسباحة في مستنقعات من الوحل لم تكن جغرافياً ولا تاريخياً من الأهداف التنموية في منطقتنا من الأساس، ولم نتخيل يوماً بأن تتوسع بهذه السرعة لتغري دول بأكملها للنزول إليها ونحن الذين نحرص دائماً وأبداً على ردمها إن صادفتنا يوماً.


ومنذ زمن ليس بالبعيد، كان أغلب الذين يتصدرون الشاشات ملتزمون بالأخلاق المهنية والألفاظ المنتقاة في أحاديثهم وانتقاداتهم، إلى أن هبت عواصف أُلبست أسماء مغايرة لحقيقتها مثل: «الربيع العربي» وعودة «الخلافة الإسلامية» التي أخرجت التنظيمات الإرهابية للعلن، لتعم الفوضى في كل مكان وتخرج أسوأ ما كان كامناً في الجانب المظلم للإنسان، ليتغير نمط الكلام والحديث، فأصبح من له دراية في الشأن ومن ليس له يظهر على الشاشة ليصرح برأيه بإسفاف خارج عن حدود الأدب، ومن لا يستطع إكمال قلة أدبه على القنوات والصحف الرسمية، يُفرغ ما تبقى في جوفه من بذاءة على منصات التواصل الاجتماعي بجهلٍ لا يمكن أن يُبرر أو يُغتفر، في استغلال سيء لكل تلك المميزات المرنة التي منحتها التقنية للإنسان، لتتحول وسائل التواصل إلى أدوات حرب وساحة لتصفية الحسابات، أمام صمت الوزارات والجهات الحكومية المسؤولة في كثير من الدول.

وقبل الصدمات المتتابعة التي تعّرض لها العالم من تلك العواصف والكوارث، كان سماع حادثة قتل واحدة من شأنها أن تؤثر على نفسية الإنسان لأسابيع عدة، ومع تكرار نشر الصور الدموية الشنيعة والأخبار غير المألوفة وبث المقاطع غير الإنسانية والمؤلمة، أصبح العالم متبلداً عاطفياً وفاقداً الإحساس بمآسي الآخرين، ولأن التطورات الجديدة أصبحت تُمكّن أي شخص حول العالم من تزييف ونشر ما يحلو له وتساعده على تنفيذ ما يخدم أهدافه الشخصية، كان من الضروري إيجاد حلول للحد من ذلك الكم الهائل من الأخبار المزيفة ومراقبة المحتوى وفعل شيء حيال تلك الفوضى التي لم تتوقف على المراهقين والمروجين والمنظمات والجماعات، بل أصبحت المؤسسات الصحافية والجهات الرسمية الحكومية تستغلها أسوأ استغلال.

فعلى سبيل المثال، بعد أن تم بث عدد هائل من الرسائل المكتوبة والمرئية والتي تدعو إلى الإرهاب والكراهية والاعتداء الجنسي على الأطفال، ونشر تحديات القتل والانتحار بحسابات مجهولة في مواقع التواصل مثل «فيسبوك»، الفترة الماضية، رفعت العديد من الجهات الرسمية دعاوى قضائية ضد تلك المواقع، فوعدت بعض شركات التكنولوجيا باتخاذ الإجراءات اللازمة لإيقاف ذلك، فقام على سبيل المثال رئيس شركة فيسبوك بتوظيف أكثر من 3000 موظف لمراجعة ومراقبة المحتوى، وهذا يعني أن هناك مراجعاً واحداً، لكل 250 ألف مستخدم تقريباً، وهذا عدد لا يكفي لمتابعة ومراقبة ما ينشره أكثر من بليوني مشترك من محتويات غير أخلاقية ومنتهِكة للأعراض أو مواجهة أخطار الدعاية والأخبار الزّائفة أمام سرعة انتشار الخبر.

ومنذ أن فلتت القيم الأساسية للإعلام، وتجاوزت بعض المؤسسات الصحافية حول العالم الخطوط الإنسانية والمهنية وتم انتهاك شرف المهنة من أجل السبق الصحافي أو الحصول على أكثر مشاهدة أو لتنفيذ أجندة مدفوعة الثمن، والعالم في انحدار إعلامي تعززه الشاشات والقنوات الرسمية، فتحولت البرامج الكلامية إلى مشادات وقحة وفبركة وتجاوزات شخصية، هدفها التصعيد الإعلامي والتشويه، لتسقط الصحافة العالمية في مستنقع الوحل، وتصبح صحافة لا أخلاقية تنشر الإشاعات والأخبار الزائفة، لتخسر بعض المؤسسات الصحافية التي كانت في وقت ما مصدر ثقة، ثقة الجمهور.

مثل السقوط المهني المخجل لمؤسسات صحافية، مثل واشنطن بوست، ونيويورك تايمز، التي سيطر عليها أكثر من لوبي يحمل أهدافاً سياسية تخريبية ممنهجة تستهدف المملكة، بعد أن منحت إرهابيين مثل «الحوثيين» منبراً لبث سمومهم وأكاذيبهم.

التمسك بالصحافة الأخلاقية وتعزيزها والبحث عن الخبر من مصدر موثوق أصبح ضرورة تعتمد على وعي الفرد الآن أكثر من أي وقت مضى، فحرية التعبير لا تبرر بأن يفتح المرء المجال لإقحام الخطوط الخلفية والهامشية، ودفع الأخبار التي ليس لها ثقل أو أية أهمية لتصدر المشهد، وإهدار وقت الناس بتكرارها وتدويلها لحد الغثاء لجعلها خبراً مهماً، لتشتيت الانتباه عن الأحداث الرئيسة المهمة التي تحدث في الوقت نفسه.

الحرص على ضبط النفس على المنصات المفتوحة والتمسك بالأدب والأخلاق لا يعد ضعفاً ولا رجعية، بل قوة تميز فرداً عن آخر أمام أية محاولة لاستدراجه للسباحة في مستنقع القبح، فمن يلقي بنفسه في تلك المستنقعات لا يتوقع أن يخرج منها بسهولة، فأغلب من سقطوا غرقوا، ومن يحاول العودة إلى السطح مجدداً، وإن نجح يوماً أو اغتسل، ستظل رائحة العار&تلطخه للأبد.