إميل أمين

قبل بضعة أعوام، قال البعض إن العصر الحجري لم ينتهِ بسبب النقص في الحجارة، وإن عصر النفط سينتهي قبل أن ينفد النفط، غير أن هذا حديث مردود عليه، ذلك أن العصر الحجري حتى الساعة لم يضمحل بالمرة وإلى الأبد، إذ لا تزال هناك استخدامات للأحجار حول العالم، ولا سيما مجالي أعمال البناء والتشييد والبنية التحتية، وعليه فالقياس بالنسبة للنفط غير سليم، فعلى الرغم من الكتابات التي تتناول تضاؤل الأهمية المستقبلية للنفط عالمياً، وظهور بدائل جديدة للطاقة، فإن أياً منها لم يقدر له أن يحل محله، كما يجمع خبراء استشراف مستقبل الطاقة على أن عصر ما بعد النفط بعيد وأبعد من نهايات القرن الحادي والعشرين بكثير جداً.
مصداقية الحديث المتقدم توضحها لنا الصراعات السرية والجهرية حول مصادر الطاقة ومنابعها، وأسعارها وعوائدها، ولا يزال النفط هو السيد الأول في هذا المضمار، فهو عصب التقدم وشريان الحياة، ولم ترتبط أي سلعة أخرى حول العالم ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجيات الوطنية والسياسية العالمية والسلطة كالنفط.
الذين قُدر لهم متابعة تدشين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في الأيام القليلة الماضية، لمدينة الملك سلمان للطاقة «سبارك»، أدركوا أن هناك بالفعل اهتماماً عصرانياً كبيراً بالطاقة وبمستقبل البلاد المرتبط بها، في صورة تتجاوز شكل الاقتصاد الريعي التقليدي، وتطلعاً إلى آفاق أوسع وأرحب تقود البلاد إلى التنمية الاقتصادية المستدامة، التي هي أحد أهم ما تتضمنه «رؤية المملكة 2030» التي يقودها ولي العهد ويرسم أبجدياتها.
تمضي المملكة في حاضرات أيامنا، وأعينها على المستقبل الذي تضحى فيه قوة صناعية رائدة، وكذا منصة لوجستية تتجاوز الحدود المحلية والإقليمية إلى العالمية، وهناك 4 ركائز تيسر لها ذلك، وتمثل قطاعات حيوية لشباب المملكة في المستقبل القريب؛ الصناعة، والتعدين، والطاقة، والخدمات اللوجستية. وجميعها مرتبطة ارتباطاً هيكلياً متيناً.


الذكاءات الاجتماعية والاقتصادية وراء «سبارك» تجعل منها مدينة جاذبة للاستثمارات العالمية، تحقق عدة أهداف دفعة واحدة. منها زيادة نسبة توطين الصناعة والخدمات في مجال الطاقة، وهناك أيضاً توليد عدد كبير من فرص التدريب والتوظيف النوعية للشباب والفتيات.
أفضل ما تفعله «رؤية 2030» هو أنها لا تسعى في طريق التنبؤ بالمستقبل عبر المنجمين وأصحاب الكرات البلورية، لكنها تمضي في سياقات ما قال به الفيلسوف البلجيكي الجنسية، الروسي الأصل، إيليا برغوجين (1917 - 2003): «إن أفضل طريق للتنبؤ بالمستقبل هو صناعته».
تصنع المملكة مستقبلها عبر المشروعات الجريئة والخلاقة، مثل «سبارك» التي تقوم على مساحة إجمالية تبلغ 50 كيلومتراً، وتنتهي أعمالها بالكامل في 2021، وتوفر ما يربو على 100 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، وتضيف إلى الناتج المحلي الإجمالي للمملكة أكثر من 22 مليار ريال، عطفاً على توطين أكثر من 350 منشأة صناعية وخدمية جديدة.


على أن أكثر إفادة فيما يخص مدينة «سبارك» هو أنها تفتح طاقات من النور والأمل للشباب السعودي، فالتلاحم مع مئات المستثمرين والخبراء والأجانب يخلق بلا شك أجواء خلاقة وإيجابية من المقدرة على التنافس واستلهام دروس الابتكار والتطوير، بما يزخم الصعود إلى معارج المجد الأدبي والمادي، ناهيك عن دعم وزيادة أمن إمدادات الطاقة، وتوفيرها بأسعار تنافسية، وخفض تكاليف المنتجات والخدمات التشغيلية المساندة والمرتبطة بقطاع الطاقة وسرعة استجابة الصناعات والخدمات المساندة المحلية لاحتياجات الشركة التشغيلية والتطويرية الملحة.
ما يجري في مدينة «سبارك» وبقية مشروعات الطاقة النفطية في المملكة يفيد بأن هناك عقولاً واعية تتعامل مع الحقائق ولا تحاربها، ذلك أنه إن كانت بدائل الطاقة سوف تظهر بقوة خلال الخمسين سنة القادمة، فإنها فترة زمنية كافية يمكن من خلالها تطوير مسارات تكنولوجية وفنية تستخدم فيها الطاقة النفطية كسلعة وسيطة، بصورة أكثر فائدة من النظر إليها أو التعامل معها كسلعة نهائية. والصناعات التحويلية والبتروكيماوية، وكذا المستحضرات الصيدلانية والبلاستيكية، وصناعة الطيران، والحواسيب، حتى الزراعة ووسائل النقل في أغلبية البلاد النامية، خير دليل على صحة ما نقول به.
سر مدينة «سبارك» الجوهري هو أنها تتمايز عن أي مدينة صناعية أخرى من حيث نوعية الصناعات التي تمتاز بها، فقد تم تصميمها لتكون عوناً وسنداً لقطاع الطاقة، بما يرتبط بالمعادن والتكرير والبتروكيماويات، وقطاع تكرير ومعالجة المياه، وقطاع الطاقة الكهربائية التقليدية، كما أن المدينة ستكون مرتبطة بشبكة النقل البري. والميناء البري الجاف الخاص بها قادر على استيعاب نحو 8 ملايين طن سنوياً، إلى جانب القطارات، بالإضافة إلى أن صيانة الآبار البترولية الخاصة بشركة «أرامكو السعودية» سوف تنتقل من الظهران إلى مدينة «سبارك» لتدعيم الفرص الاستثمارية وتعزيزها، سواء للشركات وللموردين.


لا ترتبط مدينة «سبارك» بقطاع الطاقة في المملكة فحسب، بل بالاقتصاد العام للدولة؛ حيث تعتبر لبنة مهمة وأساسية في جعل السعودية منصة لخدمة الأسواق العالمية مالياً وطاقوياً وتدعم مسارات تنويع الصادرات وزيادتها، وتفتح مجالات واسعة لزيادة الدخل القومي من العملات الأجنبية، وبالتالي جعل الاستثمارات الأجنبية المباشرة تسعى في طريق توطين سلسلة الإمداد، ومن ثم تصدير 30 في المائة من الإنتاج إلى الأسواق العالمية، ما ينمي الواردات الحكومية بشكل تقدمي في العقود القادمة.
مدينة «سبارك» طريق آمن للخروج من اقتصاد الريع المعتمد على الاستخراج والاستقطاع والتوزيع، ومسار مضمون في طريق التحول إلى اقتصادات تعتمد على العمل والإنتاج وتنويع النشاطات والصادرات، وتحويل الموارد الطبيعية الناضبة مستقبلاً إلى أصول يتولد منها نمو مستدام، نمو في البشر والحجر، في طريق المستقبل الذي يكتبه المنتصرون.

&