صالح الديواني

في مقالة سابقة طرحت تساؤلا حول إمكانية نجاح الحكومات في مواجهة الأخبار المزيفة، وتناولت بعض التحركات الحكومية على هذا الجانب في عدد من الدول الأوروبية، كانت ألمانيا أبرزها وعلى رأس القائمة، من خلال سنها لقانون تجريم الأخبار المزيفة ومنشورات العنصرية والتحريض وبث الكراهية، وفرض غرامة مالية قد تصل إلى 50 مليون يورو على منصات التواصل الاجتماعي التي تخالف نص القانون الذي يؤكد على حذف المحتوى المخالف خلال 24 ساعة من نشره. ويصنف هذا القانون على أنه الأقوى والأكثر صرامة على المستوى الأوروبي.


لكن دعونا نأخذ اليوم الوجه الآخر الذي يمكن أن يتكئ عليه مناهضو القوانين الحكومية الجديدة التي تحاول السيطرة على الانفجار الهائل لكمية تدفق المعلومات على مستوى العالم، وما هي مبررات هذه القوانين الجديدة.
في ألمانيا مثلا انتفض المعارضون على اختلاف انتماءاتهم السياسية والفكرية بشكل واسع – وهذا كان أمرا متوقعا في بلد أوروبي ديمقراطي – زاعمين أن القانون الجديد الذي أقرته حكومة السيدة ميركل، يعيد سطوة القبضة الرقابية على الشارع من جديد – أي أنها (القوانين الجديدة) تمثل ردة عن النهج الديمقراطي الذي يكفل الحريات-، وهذا يعني أن الحكومة تتنازل عن مفاهيم الحريات التي تتمتع بها البلاد. وأن هذا من شأنه أن يُستغل من جانب المتنفذين في الحكومة لصنع قواعد لدكتاتوريات جديدة تلوح في الأفق، وبمعنى أدق، كأن ألمانيا وضعت قدما على بداية نهاية حرية التعبير المكفولة -بحسب أصوات المعارضين-. 
أظن أن هذا استنتاج معقول يمكن الوصول إليه تلقائيا عطفا على الشعارات الثورية لحقوق الإنسان التي رفعتها الأمم الأوروبية، ونجحت من خلالها في الحصول عليها نتيجة نضالها الطويل، إلا أن رفع هذه الشعارات في هذه المسألة تحديدا وفي الوقت الراهن فيه من المغالطات ما يكفي لإيقاف مزاعم متبنيها، فهي واقعة بين شعارات التحرر وأخلاقيات المجتمعات الإنسانية ومكاسبها التي حققتها عبر اشتغال طويل وصراع مرير مع العنصرية والكراهية والحروب التي مازالت أجزاء كثيرة في العالم تئن من آلامها وقبحها. فالملاحظ تاريخيا أن الديمقراطيات دائما ما تخضع لمراجعة شاملة لنفسها يجعلها دائما قوية ومتماسكة، وأظنها اليوم تمر بهذه المراجعات المنطقية الموازية للتغيرات التقنية والتكنولوجية في العالم الذي يعيش حاليا التحول إلى قرية عالمية لا إلى قارات متباعدة، وظهور المعارضين لسن القوانين الحكومية ينطبق عليهم نفس المنطق الذي يمكن إسقاطه دائما على الفكر الراديكالي، الذي يصنع (أحيانا) توازنا على نحو ما بين طرفين أو مسألتين باختلاف توجهاتها الفكرية والثقافية ووووو....، والديمقراطية كذلك معروفة بأنها لا تجيز تغليب حقوق الأغلبية على حقوق الأقلية، لكن ما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي قد يعجل بانهيار هذا الأمر من خلال سيطرة جهات ما على الوسيلة لصنع رأي عام مغلوط يتم على إثره تجييش من لم يوافق أو لم يسمع أصلا لا عن الفكرة ولا عن الرأي، وهنا بالتأكيد تقف الحكومات على نقطة صلبة للتحرك نحو تنظيم قانوني جديد للعالم. 
القوانين التنظيمية الجديدة قد تمس الحريات، هذا صحيح جدا، لكن السؤال الذي يمكن أن يخلق نفسه تلقائيا، يتمثل في ما هي حدود وأشكال الحريات الجديدة التي يمكن قبولها عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في ظل اختلاف الأمزجة والمستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في العالم؟ وكيف يمكن السيطرة على المشاريع الفكرية الشاذة المعادية لكرامة الإنسان التي يمكن بثها عبر هذه المنصات؟
أمام هذه الاستفهامات المنطقية لا أظن أن الديمقراطيات أو غيرها من الأنظمة السياسية حول العالم ستقف مكتوفة الأيدي في الوقت الذي تتعرض فيه مجتمعاتها لهجمة إيديولوجية قد تكلفها الكثير، بدءا من فقد الأمن والثقافة وحتى قد تصل إلى المساس بكرامتها كأمة أيضا، بسبب محتويات بالغة الخطورة تبث الكراهية وتحرض على تبني مفاهيم عنصرية. ولا يمكن هنا الاتكاء على مبدأ حرية الرأي والتعبير مقابل السماح بكل وأي شيء تحت هذا المفهوم المطاطي للحريات، -وهو المفهوم الذي يمارس عادة تحت بنود القانون لا خارجه-، مقابل أطماع الشركات العملاقة للتقنية مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها، التي تضع المكاسب المادية أولا وتقدم العوائد الإعلانية على العوائد الأخلاقية والثقافية والفكرية، وهي المحاور التي تستغلها هذه الشركات العملاقة لتقديم منتجها وتبني تصاميمها عليها، وهذه نقطة مهمة يتحتم على كل الحكومات في العالم التصدي لها بحزم لتحافظ على توازناتها الأمنية والأخلاقية لمجتمعاتها.
يتعين على شركات التقنية العملاقة المسيطرة في هذا السوق التكنولوجي المتنامي سريعا حول العالم، أن تفكر في تطوير برمجياتها لتساعد على رصد المحتوى الرديء وغير اللائق أفضل من الاصطدام بالعقوبات والغرامات الثقيلة. فقد تحولت أساليب الحماية والحراسة اليوم من الطبيعة البشرية إلى الخوارزميات الرياضية، وبات الأمر يحتاج أفكارا جديدة تتماهى مع فكر الإنسان الحديث وتقنعه، فالوقوف عند مرحلة سن القوانين الصارمة للسيطرة على المحتوى ومكافحة الشاذ منه قد تكون خطوة موفقة الآن من جانب الحكومات، لكن المستقبل قد لا يحتملها في ظل التحول إلى فكرة المواطن العالمي العابر للحدود بلا أوراق ثبوتية. ومن أجل ذلك يجب أن نفكر ونستعد.