ديلمان عبدالقادر 

دمرت عقود من الحروب الإتنية والمذهبية العراق، وكان يئن من شح المياه أنيناً صامتاً في العقد الأخير. ويوفر دجلة والفرات 98 في المئة من موارد مياه الشفة والري في العراق. وشطر راجح من البلاد يمتد على ضفاف النهرين التاريخيين، وهما ينبعان في تركيا. لكن الأخيرة شيّدت 22 سداً و19 محطة مائية على النهرين في مشروع جنوب شرقي الأناضول في منطقة يغلب عليها الأكراد.
وتفتقر تركيا إلى موارد نفطية، لكنها أدركت في عهد رجب طيب أردوغان أن المياه هي السلاح الأمضى. وبدأ مشروع دمج شرق الأناضول بتركيا كلها مع مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك. واليوم، العالم شاهد على أثر هذا المشروع المدمر في العراق. فأنقرة تسعى إلى زيادة عدد المشاريع في جنوب شرقها لرفع مستوى حياة سكانها، بعد أن كابدوا في هذا الشطر منها الفقر وخسائر الحرب على حزب العمال الكردستاني. لكن «سعي الحكومة إلى السيطرة على القضية الكردية غذى ريبة السكان، وحملهم على التساؤل ما إذا كانت تسعى وراء أهداف سياسية كبيرة خاصة بها - مثل تأمين تغذية بالتيار الكهربائي، ورفع حجم الصادرات الزراعية، ودمج الأكراد، إلخ - عوض النزول على حاجات مواطنيها، على نحو ما تزعم»، كتبت إيلكترا تسكاليدو، محللة في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، في 2013.

ولا شك في أن سوء إدارة الحكومة العراقية وحكومة كردستان العراق، يساهم في المشكلة، ولكن جذور أزمة المياه ضاربة في تركيا. فمستوى المياه في العراق انخفض 40 في المئة في السنوات الأخيرة نتيجة الخزانات التركية. وأخفق مشروع الأناضول في إرساء الاستقرار في مناطق أكراد تركيا. والحلقة الأخيرة من حلقات المشروع هو سد إيليسو، تيمناً بقرية تحمل الاسم ذاته. وبدأ المشروع في 2006، وهو يهدد مدينة حسن كيف التاريخية بالغرق، بعد أن تربعت نحو 12 ألف عام على ضفاف دجلة. وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، ويقيم فيها 78 ألف نسمة، وهي على وشك أن تغرق وتكون كنزاً منسياً تحت الماء نتيجة سد إيليسو. وحين إنجاز السد كله، سيرتفع مستوى دجلة في حسن كيف 60 متراً، فيُغرق 80 في المئة من المدينة والبلدات المجاورة.

وقلص السد دفق المياه إلى الأهوار جنوب العراق، وهي مصنفة على لوائح اليونيسكو للتراث العالمي. وفي عهد صدام حسين، قطعت الحكومة المياه عن الأهوار لحمل الثوار الشيعة المختبئين وسط السكان على الانسحاب. والسد التركي اليوم لا يجفف الأهوار فحسب، بل يصيب بالجفاف العراق كله. والأهوار تنتج محاصيل زراعية وتوفر مياه الري لحيوانات المزارعين. ويقلص سد إيليسو دفق المياه في العراق 56 في المئة، ويرجح أن يتمدد أثره إلى إيران.

ولا شك في أن العراق لا يملك رد «(عدوان) السد» التركي. فشأن طهران، قوضت أنقرة سيادة العراق، وشيّدت نحو 20 قاعدة عسكرية في شماله. وهي تتعاون مع الحزب «الديموقراطي الكردستاني»، على رأسه مسعود بارزاني، لاقتلاع «حزب العمال الكردستاني» - ومعقله في جبال قنديل. وكلما كانت بغداد متشظية ويقوضها النفوذ الإيراني، استغلت تركيا ضعف الدولة العراقية وشفطت موارد المياه. والإمساك بمقاليد المياه هو جسر أنقرة إلى رد التمدد الإيراني وقتال خصمها اللدود، «حزب العمال الكردستاني»، على حد سواء. والعراق الضعيف هو تربة غنية تسعى القوى الإقليمية إلى مد جذورها فيها والتمدد ما وراء حدودها. و «من يدفع ثمن التنافس الإقليمي هو مصب النهر، أي العراق»، يقول فاضل الزعبي، ممثل منظمة الفاو في العراق.

* مدير مشروع كردستان في مركز «إندومت فور ميدل إيست تروث»، عن «ذي ديفانس بوست» الأميركي