خالد العضاض 

 قامت الأجندة الدبلوماسية القطرية على التعامل مع المتناقضات بتناقض،إذ أظهرت نفسها على أنها الوسيط الرئيس في الصراعات الإقليمية، وهي في الوقت ذاته تؤجج الصراعات

لم يكن الانقلاب الغادر الذي قام به حاكم قطر السابق حمد بن خليفة في عام 1995 بمعاونة رفيق دربه، وأحد أسباب القلق العربي حمد بن جاسم، انقلابا على والده فحسب، بل كان انقلابا على الأشقاء، وانقلابا على العادات والتقاليد العربية الأصيلة، وانقلابا على الأعراف الدولية والسياسة العالمية، وعلى حقوق ومبادئ الجوار، إذ حاولت قطر الحمدين لعب دور إقليمي يفوق حجمها المتواضع بكثير، حيث قادت خلال السنوات الماضية جهودا دبلوماسية وسياسية لترسيخ مكانة ليست هي أهلا لها، وحاولت بكل ما أوتيت من قوة مالية سد ثغرة نقص كبيرة إزاء الدول الكبرى عربيا، فصارت السياسة القطرية تشرق وتغرب لملء الفراغ وسد النقص في الهوية السياسية والدبلوماسية في أي مكان، وبأي وسيلة، فبدأت بوساطاتها بين الفرقاء من الصحراء الغربية إلى اليمن، لتكوّن مكانة وكيانا دبلوماسيا واسعا عليها، وحينما اندلعت الانتفاضات العربية استخدمت وسائل إعلامها ونفوذها المالي والسياسي لدعم المتمردين في العديد من الدول العربية.
قرر طرفا السياسة القطرية أن يضعا قطرهما، قطر الحمدين، على قارعة التأثير الدولي والإقليمي مهما كلف الأمر، واعتمدا في ذلك على أربع ركائز:
الأولى: إقامة علاقات عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة. أدّت إلى إنشاء قاعدتين أميركيتين كبيرتين هما قاعدة العديد الجوية، والتي تؤوي القيادة المركزية الأميركية التي قادت حربي ما بعد 11 سبتمبر 2001 في أفغانستان والعراق، والأخرى: معسكر السيلية الذي يستضيف أكبر قاعدة أميركية للتخزين المسبق للأسلحة خارج الولايات المتحدة. وبوجود هاتين القاعدتين تمكنت قطر من ضمان أمنها، وهو ما منحها الجرأة لبناء سياسة خارجية تلعب بالنار ولا تبالي، ظنا منها أن الآخرين لا يملكون قرارا أو موقفا، وهو الأمر الذي أثبتته الأيام مع مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر وغيرها لقطر.
الثانية: اللعب بورقة التحالفات، والرقص على التوترات الإقليمية التي تشهدها العلاقات البينية للدول الكبرى داخل المنطقة الأكثر التهابا في العالم، سواء الدول الإقليمية ذاتها أو الدول ذات المصالح الإستراتيجية في المنطقة من خارجها، بل لم يقتصر التوسل لصناعة هذا الدور القطري المتوهم على اللعب على وتر الموازنات مع الدول كما تفعله السياسة المحترفة، بل انتقل إلى تعامل الدولة القطرية مع الجماعات والأفراد والأحزاب بطريق مباشر وغير مباشر، ليس عن طريق المخابرات أو الأجهزة الاستخباراتية، بل عن طريق القنوات السياسية الرسمية، وهذا مما يطول منه العجب.
الثالثة: الغاز القطري المسال، والذي وفر عبر الاتفاقات طويلة الأجل لتوريد الغاز إلى اليابان ودول آسيوية أخرى، والارتفاع المطّرد في أسعار النفط والغاز عائدات، ومكّنت الدوحة من تمويل سياسة خارجية تستمر في اللعب والمشاغبة لخلق مكان ومكانة إقليمية بين دول المنطقة الكبرى.
الرابعة: إطلاق قناة الجزيرة الفضائية في عام 1996. أنشئت الجزيرة على أنقاض مشروع قناة أوربت الفضائية، والتي حاولت نقل القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية بأكملها، ونظرا للإساءات التي لا تغتفر لهذه الإذاعة للمملكة وحكامها كان الموقف السعودي صارما من هذه الاتفاقية، مما أدى إلى انتقالها بكامل طاقمها لتكون نواة لقناة الجزيرة الفضائية، والتي حملت معها بذرة الحقد على كل ما هو سعودي، تأسّست القناة بوصفها قناة فضائية خاصة مملوكة لمصالح تجارية مختلفة، واستطاعت ببرامجها المثيرة وغير المعهودة استقطاب جمهور عربي واسع، ومنحت القناة مساحة واسعة في الشارع العربي. تسبّبت القناة الإخبارية في حدوث مشاكل دبلوماسية كثيرة للدوحة، وأضحت هذه القناة بمثابة وزارة ظل لخارجية قطر المترددة والتي لا تقوى على مجابهة جيرانها الأقوى قولا وفعلا.
قامت الأجندة الدبلوماسية والسياسية القطرية على التعامل مع المتناقضات بتناقض، وكل هذا بطريقة مفضوحة، وكأنها تتفاخر بمواقفها بصبيانية غريبة، إذ أظهرت قطر نفسها على أنها الوسيط الرئيس في الصراعات الإقليمية، والتي تشمل الصحراء الغربية وليبيا ودارفور وفلسطين ولبنان واليمن وإثيوبيا وأريتريا، وهي في الوقت ذاته تؤجج هذه الصراعات، أو تنصر طرفا على طرف، أو تتعامل مع الطرفين في الوقت ذاته، وهذا حدث مع إسرائيل التي أقام معها القطريون علاقات عمل متينة وراسخة وفي الوقت ذاته تدعم أعداءها المعلنين إيران وحماس وحزب الله، وتتعامل معهم معاملة الشقيق، وهذه المواقف المتناقضة تروم منها الدبلوماسية القطرية بسذاجة بناء صورة لقطر كصديقة للجميع في المنطقة، وبالتالي كوجهة محتملة للاستثمار، بل ربما توهمت أنها بهذا العمل تحمي نفسها من تداعيات الصراع الإقليمي من خلال الزعم بأنها ليست عدوة أحد، وكذلك حينما تبني علاقات جيدة مع الجميع يمكنها ذلك من رفع مكانتها العالمية كبلد ذي نفوذ في الشرق الأوسط تلجأ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا واللاعبون العالميون الآخرون إليه. غير أن اندلاع الانتفاضات العربية في ديسمبر 2010 فضح هذا الدور الشيطاني.
ويظل الموقف الأنكد والأغرب، بعد الموقف القطري من إسرائيل، هو موقفها من جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية المحظورة ومشتقاتها، فقطر ألغت التنظيم الإخواني القطري على يد الدكتور جاسم سلطان، وفي الوقت ذاته تدعم كل إخوان الخليج والعالم العربي والعالم، وهذا دلالة على التناقضات التي أضحت سمة السياسة والدبلوماسية القطرية، وهذا لا مثيل له في الدنيا، سوى وجه الشيطان الذي يأتي كل فريق بما يهواه، ويغني له على ليلاه.