& بكر عويضة

&

تعجب أحياناً لجرأة أناسٍ على ممارسة الكذب بلا ورع، ترى عيناً تكذبُ ناظرة عين المكذوب عليه، أو عليها، وربما عليهم وعليهن، إذا كان الخطاب موجهاً لملايين الناس، سواء عبر شاشات تلفزة، أو مواقع إنترنت، أو منصات خطابة، وربما منابر جوامع، أو بيوت العبادة عموماً. إنما يزداد العجب إذ يتجاوز الاجتراء حاجز الجرأة، فإذا بالكذب الوقح يجترئ فيتطاول على مشاعر الحب، أرقى الأحاسيس في العلائق بين بني البشر، غير آبهٍ إن جَرَح القلوب، أو جرَّح عروق التنفس حتى ضاق النفس في الصدور. حقاً، صحيح أن الأساليب تتباين ويبقى الكذب واحداً، لكن الحق أن إعطاء أكاذيب ذات صلة بالأديان، أو الأوطان، صفة الحب، بينما حقيقة هدفها التلاعب بعواطف الإنسان، يبقى هو الأدهى، والأوقح، بل الأشرّ ضلالاً، والأكثر خطراً.


تأمل، مثلاً، الذي يحصل عندما يلبس تضليلُ الناس في دينهم ثوبَ محبة الخالق عزّ وجل. يتمسّح دعاة التطرف المتديّن بحب الأنبياء والرسل، كي يبرروا إزهاق أرواح وسفك دماء، وهم يعرفون، حق المعرفة، أن ذلك كذب بواح، فالخلّاق العليم أرسل الأنبياء هُدى للبشر ونوراً لهم إلى سواء السبيل، وما كلّف أي نفس فوق قدرتها حتى في التقوى «فاتقوا الله ما استطعتم» 16 التغابن - فما بال دعاة مسلمين، على وجه التحديد، يريدون تحميل العباد من أعباء العبادة أكثر مما في وسعهم، مُتخذين حب الله ورسوله الأمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وآله وسلم، مبرر تضييق على الناس، بدل التوسيع عليهم. يخبرني صديق أنه كان يستمع إلى درس في جامع عندما أكثر الإمام من تكرار حديث للرسول الكريم، منقول عن أنس بن مالك، يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»، وإذ استجمع الصديق شجاعته، تمنى على المتحدث الانتقال إلى جانب آخر في موضوع الدرس، فانتفض المُدرس مغاضباً، ونهر الرجل موبخاً: أتعترض على التذكير بحب الله ورسوله؟ أجابه الرجل إذ نهض منصرفاً: بل إن العليم بذات الصدور يعلم أني أحب خالقي وأنبياءه ورسله أجمعين، وهم بالفعل أحبُ إلي من نفسي ومن أهلي وكل شيء، إلا أنك أكثرت من التكرار، وتخاطب الناس بوجه عابس غاضب، حتى كِدت تغرس في صدري الشك بصدق حبي للخالق وأنبيائه ورسله، فلماذا أسلوب التنفير بدل التبشير يا رجل؟


تُرى، هل أخطأ مُحدِثي عن تجربته تلك أم جانبَهُ الصواب؟ بل الأرجح أنه أصاب. واضح أن بعض الأئمة، وأغلب الدعاة المعتمدين منهج التخويف لتمرير نهج التطرف في الدين، لا يترددون إزاء توظيف سلطتهم للادعاء أمام المُستمعين لوعظهم، سواء في أماكن العبادة، أو عبر الإنترنت، أن تفسيرهم للتقوى، وشرحهم لكيفية إخلاص المرء في التعبّد، هو وحده الصحيح. هل يُعقل هذا؟ كلا. بل ربما ليس من التجني القول إن ذلك اجتراء يدخل في سياق التطاول على شفافية علاقة المؤمنين والمؤمنات بالخالق. نعم، بلا جدال، النصح مطلوب، والدين هو النصيحة، صحيح تماماً، أما كيف يخلص المؤمن والمؤمنة الحب لله والأنبياء والرسل، فليس من شأن أحد أن يلقي ظلال الشك بشأنه. هذا الإشكال ليس قاصرا على الإسلام هذه الإيام. تواجه كلٌ من المسيحية، وكذلك اليهودية، إشكالاً يماثله. في كلتا الديانتين هناك دعاة متطرفون. خذ، مثلاً، ما واجه نادين الراسي، الممثلة اللبنانية، إذ لمجرد قولها إنها مسيحية تؤمن بالرسالة المحمدية، ولأنها قرأت سورة الإخلاص، ثار ضدها متطرفون، ورموها بتُهمٍ شتى تحول بينها وبين حبها لله وأنبيائه. إنْ لم يكن هذا تطرفاً فما هو التطرف إذن؟


أما عن الكذب، أو التكاذب، بشأن حب الوطن، فالحديث يطول. إنما، لأن الأولى فيما يخصني هو الوضع الفلسطيني، ربما يكفي التذكير بأن كل قادة الفصائل الفلسطينية يدّعون وصلاً بحب فلسطين، لكنهم في الواقع يتناحرون فيما بينهم بينما يدفع الفلسطينيون أفظع الثمن منذ سنين طالت. تلك أكاذيب تُنسب زوراً للحب وبهتاناً، سواء فيما يعني الأديان أو الأوطان، وهي في واقع الأمر أخطر كثيراً من كذب المحبين، سواء المحترف منه لهدف خبيث، أو البريء الهادف إرضاء المحبوب. ذلك يحدث بين أغلب العاشقين، منذ ما قبل زمن القديس فالنتاين، وبعده، وهو في أول المطاف، وآخره، بلا ضرر يتأذى منه مئات آلاف البشر في مختلف أنحاء المعمورة.