& حازم صاغية


حدث استثنائي غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية شهدته أوروبا قبل أقل من أسبوعين: لقد استدعت فرنسا سفيرها في إيطاليا بهدف «التشاور»! استدعاء السفير هو، في التقليد الديبلوماسي، خطوة تسبق قطع العلاقات، فهل يمكن أن تتدهور الأمور إلى هذا الحدّ؟
صحيح أن الحكومتين تحاولان تطويق المشكلة، لكنّ المشكلة حصلت بالفعل، وقد تحصل ثانيةً، وما توحي به كبير وخطير على العلاقات الأوروبية، بل العلاقات الدولية.


لنلاحظ أن تردي تلك العلاقات بين باريس وروما يحصل بموازاة الخلاف الذي استدعاه استفتاء بريكست في بريطانيا، وبالتالي خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي في صيغة لا تزال مبهمة وغامضة. نلاحظ أيضاً درجة بعيدة من تصدع الإجماعات الأوروبية كما نشأت بعد الحرب الثانية، في ما خص روسيا وزعيمها بوتين، والولايات المتحدة ورئيسها ترامب. لكننا نلاحظ كذلك صعود ظاهرة استدعاء السفراء ما بين الدول الأوروبية: في 2016 استدعت اليونان سفيرها في النمسا تعبيراً عن اختلاف البلدين فيما خص الهجرة. في 2017 استدعت هنغاريا سفيرها في هولندا رداً على تصريحات للسفير الهولندي قارن فيها حكومة هنغاريا بتنظيم «داعش».


مع هذا كله، يبقى تردي العلاقات الفرنسية الإيطالية نقلة نوعية في سلبيتها. فالبلَدان تشاركا في تأسيس الاتحاد الأوروبي، وهما متجاوران جغرافياً، فضلاً عن أن ثقلهما السكاني والاقتصادي والسياسي يجعلهما مركزين في القارة، لا تفوقهما أهميةً إلا ألمانيا.
بيد أن هذا التطور الخطير لا ينفصل بدوره عن يقظة الشعبوية، وإلى حد بعيد عن دور مسألة الهجرة في تلك اليقظة. فمعها وبسببها، شرعت تظهر سلوكات وأقوال سياسية لم تكن مألوفة، ولا حتى مُتخيَّلة من قبل.
والحال أنّ الحدث الذي فجّر الأزمة كان إقدام نائب رئيس الحكومة الإيطالية لويجي دي مايو، وهو أيضاً قائد «حركة النجوم الخمس»، على عبور فرنسا ولقاء وفد من «السترات الصفراء» على رأسه قائدها كريستوف شالنسون، قريباً من باريس، ثم توجيه الدعوة لهم لزيارة روما. دي مايو، الذي يحس بقرابة أيديولوجية مع «السترات الصفراء»، لم يكتف بهذا، بل غرّد على تويتر متحدثاً عن «رياح التغيير التي عبرت جبال الألب».


هذا السلوك الإيطالي، غير المألوف في العلاقات بين دول ديمقراطية مستقرة، لم يكن نسيجاً وحده. فهناك فصل آخر في الأزمة نفّذه زميل دي مايو وشريكه في نيابة رئاسة الحكومة. إنه النجم اليميني الصاعد ورئيس حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني الذي يتولى أيضاً وزارة الداخلية. فسالفيني، الذي اشتُهر بمواقفه العدوانية من اللجوء والهجرة، وبتحالفه مع الزعيمة العنصرية مارين لوبين في فرنسا، سبق أن تمنى لـ«السترات الصفراء» أن تتخلص «من رئيس رهيب» هو إيمانويل ماكرون. وهو لم يتردد في حض المقترعين الفرنسيين على الاقتراع لحليفته لوبين.
والمعروف أن دي مايو وسالفيني هما الرجلان القويان في الحكومة الإيطالية التي يرأسها جيوسيبي كونتي، الذي لا يمثل أي وزن فعلي في السياسة الإيطالية.
بيت القصيد في هذا أن ماكرون يستشعر نوعاً من الحصار الشعبوي المناهض لأوروبا، والذي يُترجم في فرنسا تعزيزاً لقوة لوبين وباقي التيارات المشابهة في أقصى اليمين وأقصى اليسار. لهذا لم يتردد في الحديث ذات مرة عن «طاعون الشعبوية» الذي يفتك بالقارة، ثم في الربط بين استفزازات الحكومة الإيطالية والانتخابات الأوروبية التي يُفترض إجراؤها في مايو المقبل.&
واقع الأمر أنّ التدهور الفرنسي الإيطالي إنما تعود بداياته الصامتة إلى قيام الائتلاف الحالي في روما، في يونيو الماضي، بين الحزبين المناهضين للاتحاد الأوروبي: «حركة النجوم الخمس» (الجنوبية) و«رابطة الشمال». وبدايةٌ غير سعيدة كهذه قد تجرّ آثاراً خطيرة ليس على فرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي فحسب، بل أيضاً على أعراف السياسة ولغة الديبلوماسية المتعارف عليها.

&


&

&

&

&