&محمد علي فرحات&&

كانت مفاجِئة جريمة نيوزيلندا، حيث قَتَلَ متعصّبون مغلقو القلوب والعقول عشرات المصلين في مسجدين. هناك في «آخر الدنيا»، على ما كنّا نسمّي في طفولتنا تلك البلاد، أثناء استعراضنا أسماء ومواقع الدول على كرة معدنية تمثل الأرض. ولما تجاوزنا الثامنة عشرة قرر عدد من الأصدقاء الهجرة إلى كندا وأستراليا، عدا واحداً اختار نيوزيلندا لأنها الأبعد، في إشارة إلى يأسه من لبنان.


لا يبدو عدد المسلمين في نيوزيلندا كبيراً، فهم لا يتجاوزون الخمسين ألفاً من أصل السكان البالغ عددهم خمسة ملايين، وبذلك نستبعد الأسباب الاقتصادية والثقافية التي تدفع مهووسين إلى الدفاع عن وضعهم المعيشي أو هويتهم القومية بقتل الآخر المختلف. ثمة ما هو أبعد وأخطر يتمثّل بانتشار ظاهرة «النيو إرهاب» كنوع من الرد على جرائم «القاعدة» و«داعش» بدءاً من كارثة 11 سبتمبر الأميركية وصولاً إلى طقوس الحرق والقتل والاستعباد في ليبيا والعراق وسورية، ناهيك عن عمليات تفجير في أوروبا وأمكنة أخرى في العالم حصدت أبرياء وتسببت بخسائر مادية.

نحن أمام سباق بين إرهابيين يطوي صوت العقل والمصالح الأساسية للبشر، فمن أين نبدأ حقاً في التصدّي لهذا الوباء العقلي والجفاف الروحي المؤدّيين إلى عالم الجريمة الواسع؟ لقد ارتفعت أصوات التنديد بمقتلة نيوزيلندا، وفي مقدّمها صوتا دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان، الرئيسان اللذان لا يتورّعان عن تعهّد الفوضى إذا وجدا فيها مصلحة شخصية لهما، وإن كانا يتذرّعان بمصلحة وطنية.

نبدأ بالضرورة من صور الإرهاب القاعدية والداعشية التي شهدها العالم ولا يزال، بالاستناد إلى فكر متطرّف غير مسؤول، على الأقل، يسيء بالدرجة الأولى إلى الدين الإسلامي متذرّعاً باجتزاءات من الموروث ليحرّض على الجريمة، أي جريمة، أو يبررها بعد حدوثها.

وفي الرد على جرائم الـ «نيو إرهاب» نستذكر قوانين الدول المتمدّنة وندعو إلى التمسُّك بها تأكيداً لحقوق الإنسان الأساسية في العيش الآمن، على الأقل، لكننا نمتنع عن ذكر هذه القوانين في بلادنا حين يتذرّع المتطرّفون بحقوق وطنية، لا شك فيها، لقتل الآخر بدل التحاور معه. هكذا تولد الأخطاء الكبيرة من ممارسة الأخطاء الصغيرة وعدم التنبُّه إلى الأخطار التي تتوالد من مسوخ صغيرة متحوّلة إلى وحوش لا يقوى عليها أحد.

لرئيسة وزراء نيوزيلندا أن تصرّح باسم العقل والقانون وحقوق المواطنة في بلدها، هذا واجبها الوطني والإنساني وبالتالي الحضاري، لكننا نساعد أنفسنا وندافع عن السلام بين البشر حين نتنبّه إلى أن المحرّض الأساس على الـ «نيو إرهاب» هو الصورة المشوّهة للإسلام والمسلمين التي قدّمها جهاديون متطرّفون بالكلام وبالفعل. أنظر إلى «مآثر» «القاعدة» و «داعش» في العالمين العربي والإسلامي أولاً ثم في سائر بلاد العالم. ثمة تعميم لصفة الإرهاب يطاول المسلمين، ولا يجد، على خطورته، رادعاً كافياً من النخب الإسلامية نفسها، خصوصاً من معظم من يحتلّون منابر النطق باسم الدين الإسلامي، سواء كانوا يستحقون هذه المكانة أو لا يستحقونها.

فلتكن السياسة خطأً أو صواباً، ومثلها الحرب، ولكن، فلنُبعد الدين، بما هو إيمان في الأصل وعلاقة عبادة بين الإنسان والله، فلنُبعده عن حروب تخاض باسمه نتيجة جهل أو سوء نية، تلك الحروب التي تقتل أبرياء وتدمّر معالم حضارية تتسبّب أيضاً بتجفيف الإيمان أو تلوّثه بدنس الجريمة.

السباق بين الإرهابيين يستدعي سياسات عالمية مسؤولة تعلو على المصالح العابرة نحو مصلحة الإنسان الجامعة.