&أحمد الصياد&&

المساومة أساس الصراع الدولي. مبدأ راسخ لطالما أقرته العلاقات الدولية منذ تبلورت وتطورت في صياغتها الراهنة؛ ومن ثم لا يقوى مبدأ "صين واحدة" علي زحزحته، قدر ما يخطئ وو تشيان، المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الوطني الصينية، لو يبني عالياً على رده على نبأ إعلان البنتاغون موافقة وزارة الخارجية الأميركية على بيع تايوان أسلحة بقيمة 2.2 بليون دولار؛ مؤكداً أن السياسات الأميركية الخاطئة تنتهك بشدة مبدأ "صين واحدة".


تدرك الصين أن الحرب التجارية المستعرة بينها وبين أميركا لا تُرجح أن يُبدي الكونغرس الأميركي أي اعتراض على هذه الصفقة خلال المهلة القانونية، البالغة 30 يوماً. وبالتالي يسعي تشيان إلى حث أميركا علي الوفاء بتعهداتها، وبنود الإعلانات الصينية الأميركية الثلاثة المشتركة، وهي على وجه التحديد: إعلان شنغهاي في 28 شباط (فبراير) 1972، وإعلان إقامة العلاقات بين الصين وأميركا في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1978، والبيان المشترك الصيني - الأميركي في 17 آب (أغسطس) 1982. وهي الإعلانات التي عبَّدت الطريق أمام علاقات وطيدة بين البلدين؛ وأعتُيرت بمثابة ملفات إرشادية لتطور العلاقات بين البلدين، لنجاحها في معالجة الملفات الحساسة بينهما بوضوح؛ إذ أعاد الجانب الصيني في إعلان شنغهاي، وهو أول وثيقة توجيهية لمسار العلاقات الثنائية، وعُد إصداره مؤشراً على انتهاء حالة العزلة بين الصين وأميركا. وعن المسألة التايوانية، أكدت الصين في إعلان شنغهاي مبدأ "الصين الواحدة" ووجوب انسحاب القوات الأميركية من تايوان، ومن جانبه أكد الجانب الأميركي "أننا لا نعارض ولا نتحفظ علي هذا الموقف" كما "نؤكد سحب جميع القوات والمنشآت الأميركية من تايوان كهدف نهائي". لاحظ تعبير "كهدف نهائي" تدرك أن صياغة المعاهدات والإعلانات الدولية لها فنونها القادرة دوماً على الإبقاء على الأبواب كافة مفتوحة، ولو بقدر ما.

أما البيان المشترك الصادر عن الجانبين في آن واحد في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1978، حول إقامة العلاقات الديبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة، فقد وافقت فيه أميركا على المبادئ الثلاثة لإقامة العلاقات الديبلوماسية التي تقدمت بها الصين: قطع العلاقات الأميركية - التايوانية، سحب قواتها ومنشآتها منها، إلغاء المعاهدة الأميركية مع سلطات تايوان. في حين أن بيان السابع عشر من آب (أغسطس) 1982، أكد على تعهد أميركا "بتقليل" بيع الأسلحة إلى تايوان تدريجياً حتى وقفها. لاحظ مرة أخرى ميوعة التعبيرات، بما يؤكد تفوق الديبلوماسية الأميركية، واستفادتها من تراكم خبراتها التي كفلت لها شق طريق البلاد نحو الاستقلال ثم الوحدة بين الولايات الأميركية، بشكل لم تتمكن منه الصين على محدودية مكوناتها الشاردة، وأهمها تايوان وهونج كونج.

وتعود سياسة "صين واحدة" إلى عام 1949 ونهاية الحرب الأهلية الصينية، بانسحاب الجانب الصيني الوطني، الذي كان أيضاً يُعرف بالكومينتانغ بقيادة تشيانغ كاي تشيك، إلى تايوان، واتخذوا منها مقراً لحكومتهم، بينما أعلن الشيوعيون المنتصرون قيام جمهورية الصين الشعبية. مع إصرار كل طرف على أنه يمثل الشعب الصيني. غير أن جمهورية الصين الشعبية نجحت في فرض الأمر الواقع، وعمَّقت من سياسة "الصين واحدة" وفرضتها على المجتمع الدولي، حتى أن الأمم المتحدة لا تعترف بتايوان دولة مستقلة. وهي السياسة التي يمكن تلخيصها في أن هناك صيناً واحدة في العالم، هي جمهورية الصين الشعبية، وتايوان ما هي إلا جزء منها، تمرَّد ولا بد أنه سيعود يوماً إلى حضن الوطن الأم. وعليه تعاني تايوان عزلة ديبلوماسية على الساحة الدولية. لكن ثمة دولاً تقيم علاقات غير رسمية مع تايوان عبر مكاتب تجارية ومعاهد ثقافية، وإن بقيت أميركا أهم حلفاء تايوان من الناحية الأمنية.

ولتزويد تايوان بالأسلحة الأميركية سندٌ من قانون سنته أميركا في عام 1979، عندما قطعت علاقاتها بتايوان وأغلقت سفارتها بها؛ إذ أصدرت أميركا قانون العلاقات مع تايوان الذي ضمن للجزيرة دعماً أميركياً، وينص على أنه يتوجب على أميركا مساعدة تايوان في الدفاع عن نفسها، في استخدام بارع للممرات الآمنة التي شقَّتها صياغة الإعلانات الصينية - الأميركية المُشار إليها، والتي تعتبر ملفات إرشادية للعلاقات بين البلدين. كما أن واشنطن تحتفظ في العاصمة التايوانية تايبيه بوجود غير رسمي من خلال المعهد الأميركي، وهو مؤسسة خاصة يستخدمها الأميركيون لممارسة النشاط الديبلوماسي بشكل مُستتر.

وعلى رغم محاولات حكومة تايون الخلاص من قبضة سياسة "صين واحدة"، إذ تُطلق علي نفسها "جمهورية الصين"، فإن العلاقات مع الوطن الأم: جمهورية الصين الشعبية، يظل الخيار الأول لدول العالم بحكم براغماتية العلاقات الدولية، بخاصة مع وضوح التهديد الصيني باستخدام القوة العسكرية لمواجهة أي محاولة رسمية للانفصال من جانب تايوان، التي غيرت اسمها إلي "تايبيه الصينية" حتى يُسمح لها بالمشاركة في الألعاب الأولومبية على سبيل المثال.

ولأن التنافس الشديد بين الصين وأميركا ليس من المنتظر إلا تصاعده، فإن العلاقات التايوانية - الأميركية اتخذت مسارات سياسية نافذة، ارتكازاً على مبدأ "المساومة جوهر الصراع الدولي". من ذلك أن تايوان استخدمت مجموعة من السياسيين الأميركيين من ذوي النفوذ في الإدارة الأميركية، منهم عضو مجلس الشيوخ السابق بوب دول، الذي أكد الإعلام الأميركي مراراً أنه لعب دوراً بارزاً في ترتيب المكالمة الهاتفية الشهيرة التي أجراها ترامب مع رئيسة تايوان تساي انغ وين، في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 2016، وتلقى فيه تهنئتها بمناسبة فوزه في االانتخابات الرئاسية. كما ترك ترامب الباب مفتوحاً بشأن ما إذا كان سيلتقي رئيسة تايوان إذا زارت أميركا في أي وقت بعد توليه الرئاسة بقوله: "سوف نرى". ما استدعى اعتراضاً من بكين حينئذ، وعلَّقت وزارة الخارجية الصينية بالقول: إن "مبدأ صين واحدة" لا يمكن التفاوض عليه، وحثَّت الأطراف المعنية في أميركا على الاعتراف بحساسية قضية تايوان.

ولأن أوجه المساومة كثيرة، ففي الرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2019، عبرت سفينتان حربيتان أميركيتان مضيق تايوان، وسرعان ما حثَّت الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية هواتشون ينغ أميركا الالتزام بمبدأ "صين واحدة"، وهو أمر تكرر من قبل، في إشارة إلى اتساع رقعة الصراع الصيني - الأميركي، وما الحرب التجارية إلا إحدى صوره، وتصريح وو تشيان يؤكد جدل المبادئ، وتفوق الخبرة الديبلوماسية الأميركية على نظيرتها الصينية.