& توفيق السيف

&لا تستهدف هذه المقالة تمجيد الفيلسوف والفقيه الأندلسي أبي الوليد بن رشد (1126 - 1198م) مع أنه يستحق التمجيد من دون أدنى شك. غرضي محدود في بيان سبق ابن رشد إلى مسائل في فلسفة الدين، ما زالت محل نقاش حتى اليوم. ربما يؤخذ هذا دليلاً على أن أذهاننا لا تزال حبيسة الماضي وجدالاته. وهذا وارد طبعاً. لكن دلالته الأقوى هي أن عبقرية الرجل قد سبقت زمنه.

كتب ابن رشد ما يزيد على 100 كتاب في مختلف العلوم، من الفقه إلى الفلسفة والفيزياء والمنطق والفلك. لكن غالبية من اطلعوا عليها مالوا إلى تركها جانباً؛ لأن نهاياتها المنطقية، لا تلائم الرؤية السائدة بين أهل العلم الديني، في ذلك الزمان وفي هذا الزمان على السواء.

سوف أعرض باختصار مسألة واحدة أثارها ابن رشد، وهي ما زالت مثيرة لاهتمامنا اليوم، أعني بها المعيار الدنيوي للبرهنة على صلاح الدين. فقد قرر ابن رشد أولاً، أن أحكام الشريعة قائمة كلها على أساس منطقي عقلاني. إذ يستحيل أن يحصر الخالق التكليف في العقلاء، ثم يأمرهم بما لا يقبله العقل. ويترتب على هذا، أن عقول البشر قادرة على استيعاب حكم الأحكام ومناسباتها وكيفية تطبيقها. وبالنسبة للأحكام الناظمة للتعاملات بين الناس، فإن معنى كونها عقلانية هو استهدافها مصالح مقبولة عند العقلاء. ويخرج من هذا أمران، الأول: الأحكام التي لا نعرف حكمتها أو حقيقة المصالح التي تستهدفها، فهذه تبقى مفتوحة لغيرنا ممن يعرف، اليوم أو في المستقبل. والآخر: أن بعض ما يقبله العقلاء من أهل بلد بعينه أو دين بعينه، قد لا يقبله غيرهم. وهذا لا يخل بعقلانية الحكم أو حكمته. ذلك أن بعض المعقولات مشترك بين عقلاء العالم كافة، وبعضها الآخر مقيد بأعراف محلية، أو قيم أخرى تسهم في تشكيل مفهوم المصلحة، لكن قبولها لا يتجاوز نطاقاً جغرافياً أو ثقافياً محدداً.
تتعارض هذه الفكرة جوهرياً مع فرضية مشهورة في التفكير الديني، تصل إلى حد المسلمات، أعني بها قولهم إن عقل البشر محدود فلا يستطيع إدراك بعض أحكام الشريعة أو عللها. مع أنه لا يستطيع - في الوقت نفسه - إنكار كونها جزءاً من الشرع.
تتعارض هذه الفكرة أيضاً مع الرؤية التي يتبناها الإخباريون كافة وبعض المتأثرين بهم من الأصوليين، وفحواها أن المصالح والمفاسد أو الحسن والقبح الذي يراه البشر في الأفعال، لا يترتب عليه قيمة شرعية من حيث الأصل والمبدأ، إلا إذا أقرها الشارع. أي أن الدنيا ليست دار اختبار أو تعيين لما يصلح

وما لا يصلح. يعتقد هذا الفريق (وهو يشكل التيار العام في التفكير الديني التقليدي) أن الغرض الأول للدين هو تعبيد الناس لرب العالمين، عسى أن يحظوا بالنجاة في الآخرة. أما الدنيا فهي مجرد طريق يعبرها الإنسان إلى دار القرار، لا نربح شيئاً إذا كسبناها ولا نخسر شيئاً إذا فقدناها.
خلافاً لهذا، رأى ابن رشد أن صلاح الدنيا غرض جوهري من أغراض الدين. وأن إفساد الإنسان لدنياه قد يذهب بآخرته. بناءً عليه؛ فإن صلاح الأحكام والأعمال الدينية بشكل عام، يجب أن يظهر أثره في الدنيا، وليس في الآخرة، مثل القول: افعل هذا وستعرف فائدة الاستجابة بعدما تموت. لقد نزل الدين رحمة للعالمين، في الدنيا أولاً. وأن إثبات فائدته لا يتحقق إلا برؤية أثره الدنيوي.