محمد بدر الدين زايد&&

ناقشني صديق عزيز في خصوص مقالي الأخير حول رسوخ التوجهات العدوانية في السياسة الخارجية التركية، ولم يكن داعي النقاش إنكار النزعات العدوانية التركية فهو متفق مع هذه الرؤية، ولكنه طرح فكرة أن هذه سياسات من يدافع عن مصالحه، ويملك القدرة على هذه العدوانية ما دامت تحقق هذه المصالح. والحقيقة إني وجدت في ما طرحته عليه من ردود أن الأمر يستحق وقفة متأنية، وأن طرح الاعتبارات كافة ليس فقط أمراً مهماً لمتابعي السياسة الخارجية مع اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، بل أيضاً في ما يتعلق بحسابات أي صانع قرار أو مفكر يبحث في استراتيجيات الدول وأدواتها لتحقيق مصالحها.


ربما سأبدأ من دروس التاريخ التي هي الملاذ الرئيس لباحث وممارس للسياسة لاستخلاص الدلالات، حول سؤال محدد وهو: هل انتصرت السياسات العدوانية عبر التاريخ؟ هنا سنجد إجابة شديدة الالتباس والتنوع. وأبدأ بجريمة اغتصاب عدوانية كبرى وهي احتلال الأوروبيين للأميركيتين، وهي جريمة وصلت أقصاها في الولايات المتحدة، إذ تمت عمليات إبادة وتطهير عرقي تجاوزت كل الحدود الأخلاقية، وانتهى هذا العدوان بظهور أميركا التي نعرفها، ولن ندخل في تفاصيل كثيرة حول هذه المسألة ولكنها نموذج واضح لانتصار العدوان في التاريخ.

وعندما نجحت الامبراطوريات القديمة في العدوان على الآخرين واحتلالهم لقرون أو سنوات طويلة، وكذلك عندما نجحت القوى الأوروبية في احتلال شعوب العالم الأخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وعندما نجحت بريطانيا في احتلال الهند ونصف العالم، كانت الإجابة واضحة وصريحة، وهي: نعم، وأن هذا العدوان حقق الازدهار للشعوب المستعمرة وساهم في نجاحها في بناء نهضتها الاقتصادية التي ما كان يمكن لها تحقيقها من دون هذه العدوانية. هكذا يتم تبرير استخدام العنف ضد الآخرين لتحقيق مصالح أنانية وجشعة، بعبارة أخرى: يقدم لنا التاريخ نماذج لا حصر لها عن تحقيق العدوان لمصالح الدول الخارجية.

كما يقدم لنا التاريخ نماذج عكسية عدة لفشل العدوان. وهنا نجد مستويين من الأسباب، الأول ألا يكون هذا العدوان مصحوباً بقوة كافية فيرتد على صاحبه، أو أن يسبب ردود فعل تالية تؤدي إلى استفزاز يخلق قوة عدوانية أو يولد الكراهية كرد فعل. ولعل النموذج الأكبر في التاريخ هو الحرب العالمية الثانية، عندما أدى العدوان النازي الفاشي إلى حشد أوروبا لقواها وطاقاتها بالتحالف مع الولايات المتحدة لهزيمة هذه الطاقة العدوانية العمياء التي عكسها السلوك الألماني – الإيطالي – الياباني. وربما لما كانت القوة الأميركية صعدت بهذه السرعة الشديدة إلى قمة النظام الدولي لولا التحدي الذي تعرضت له واشنطن في بيرل هاربور.

وخلافاً لانتصاره على السكان الأصليين في الولايات المتحدة، فشل المعتدي الأبيض في جنوب إفريقيا، وانتهى الأمر بهزيمة النظام العنصري في النهاية، مثلما حدث في كل المستعمرات الأوروبية تقريباً. علماً بأنه مرت قرون قبل هزيمة هذا النظام العنصري العدواني الاستيطاني.

أما الحال التركية، فتستحق وقفة في حد ذاتها، ذلك أن السلوك التركي العدواني والعنصري الاستعلائي، خلق ردود فعل عربية معادية للدولة العثمانية أدت للتحالف مع بريطانيا في مشهد نادر في التاريخ العربي الإسلامي، أنتج "الثورة العربية الكبرى"، التي لا نناقشها هنا، ولكن فقط لنتذكر أنه عندما انهارت الدولة العثمانية، لم يبكها أحد إلا قلة لا تذكر من العرب، ربما ليس في مشرقهم، بل في شمال إفريقيا. وبعض هذه القلة القليلة كان يتوهم استخدام شرعيتها الوهمية كذريعة للخلاص من الاستعمار الغربي، وحتى هؤلاء لم تكن هذه الأطلال لديهم من الأهمية كي يواصلوا حديثهم هذا، فقط كان يؤلمهم أن الكيان الأقوى في العالم الإسلامي ينحدر إلى هذا الحد.

هل ينتصر العدوان أم لا ينتصر؟ الجواب هو: ربما. والحقيقة أنه في الكثير من حالات التاريخ يخسر في النهاية، وإسرائيل اليوم هي أكبر "ربما" يمكن أن نتوقف عندها، فهي اليوم تبدو منتصرة، ولكن عوامل الهزيمة من منطلق تاريخي تبدو أكثر اتساعاً ولا يمكن إنكارها، فلم ينتصر استعمار استيطاني عدواني باستثناء الولايات المتحدة عبر التاريخ إلا ضمن مساحات جغرافية غير كاملة مستقطعة من القوميات التي يقع عليها العدوان، كما أن الشعب الفلسطيني لم يستسلم ولن يفعل هذا، والحسابات الديموغرافية والسياسية معقدة، لدرجة أنها تجعل الجواب عن سؤالنا أقرب إلى ربما وليس نعم حتى الآن.

وحتى نحصر النقاش ونحدده في الشأن التركي الذي أثار هذه الخواطر، تجدر الإشارة إلى أن اعتبارات الجغرافية السياسية والتاريخ، وضعت تركيا في موقف صعب وخيارات معقدة وكانت دوماً تطرح سؤالاً صعباً حول أي استراتيجيا وأدوات هي الأنسب والأكثر تحقيقاً للمصالح التركية؟ هذا السؤال لا بد أن تبدأ إجابته باعتبارات عدة، من أهمها: النسبية التي هي مفتاح تحليل القوة في العلاقات الدولية عموماً، وثانيها التعقيد والتغيير الشديد في الظروف الدولية؛ أما النسبية فلها معانٍ عديدة منها أن ما يصلح في حال قد لا يصلح في أخرى فالتشدد والعدوانية قد يكونا ضرورة في بعض الأحيان القليلة، وفي أحيان أخرى يكون الاقتراب التعاوني الحل الأنسب لتحقيق المصالح، والنسبية هنا لها معنى آخر في ما يتعلق بأنماط التأثير المعقدة، فالقوة الناعمة والديبلوماسية لا تقل أهمية عن تلك الخشنة من عسكرية واقتصادية. ولئلا ننزلق إلى نقاش معقد أو تكرار بعض ما عرضناه في الأسبوع الماضي، ربما نكتفي بما حدث بعد أن طرح وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داود أوغلو نظرية "صفر مشاكل" مع جيران تركيا، وحاول تحسين علاقات بلاده الأوروبية وكذا العربية، وقدمت تركيا نفسها كنموذج للديموقراطية في العالم الإسلامي وكحلقة وصل بين العالم الإسلامي والغرب، وفي ظل هذه الظروف ازدهر الاقتصاد التركي في شكل غير مسبوق.

اليوم حدث تحول كامل، إذ تتوتر علاقات تركيا بكل جيرانها تقريباً وتتعمق أزمتها وعزلتها الدولية، وحتى الصفقة التي تجريها في سورية وتجبر عليها شريكتها واشنطن أي المنطقة العازلة، تدل على أن الأخيرة أدركت أن عليها دفع ثمن ما مقابل استمرار تواجدها في الملف السوري، أما روسيا، فتتعامل معها لمصالح اقتصادية واستراتيجية، ولتعميق تناقضاتها مع واشنطن، ولكنها تمثل بالنسبة إليها خطراً حقيقياً إن لم تتراجع عن مشروعها للإسلام السياسي.

والواقع أن عقدة التوسع والسيطرة التي تسيطر على جانب من العقل التركي هي التي تشكل مصدر العقدة الجديدة التي أضيفت إلى سياسات أنقرة الخارجية، وعموما بدأت آثار ذلك تظهر على الاقتصاد التركي بشكل ملحوظ وهو مرشح لمزيد من التدهور.

أما نسبية التأثير، فنراها في حالة قبرص الصغيرة والضعيفة عسكرياً، واليونان الأقل قوة عسكرياً واقتصادياً من تركيا، كونهما يستطيعان تكبيد تركيا المزيد من الخسائر مع الدعم الأوروبي وبدرجة ليست قليلة الدعم المتوسطي كذلك. وكلما أمعنت تركيا في إجراءاتها كلما جلب ذلك مخاوف وعداءً أوروبياً، كما أن قدرة التأثير التركية في الجبهتين السورية والليبية لا ينبغي المبالغة في شأنها، فجزء من تفسيرها أن قلة من الأطراف الدولية تتماشى جزئياً معها وبدرجات مختلفة، وتفعل ذلك نكاية في أطراف أخرى، وفي النهاية لا تمتلك هذه السياسات التركية القدرة على الاستمرارية الدائمة.

إحدى سمات العالم المعاصر، على رغم أنه لم يكن يوماً مثالياً وقد لا يصبح أبداً كذلك، هي أن نسبية القوة وتداخل المصالح والتأثيرات والاعتماد المتبادل في أشكال غير مسبوقة تاريخياً، ستجعل من تكلفة العدوان أكبر وتجعل عائدها أكثر سلبية. ولعل نتائج الحروب التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، تظهر أن أغلبها لم يحقق أهداف المعتدين، كل هذا يثبت أن السياسة الحصيفة والتي تبحث عن المشترك وعن التفاهمات تحقق عائداً أكبر في النهاية.