يحدث كثيراً أن توقظ ذاكرتنا أغنية قديمة تعلقنا بها في مرحلة من مراحل حياتنا، وليس شرطاً أن تذكرنا هذه الأغنية بحدث أو بشخص بعينه، فيكفي أن تذكرنا بها هي نفسها كأغنية، وتأخذ هذه الذكرى بمخيلتنا إلى سنوات أصبحت وراءنا، يشدّنا إليها حنين لا سبيل للشفاء منه، حتى لو حسبنا العكس. كل ما في الأمر أن هذا الحنين ربما يهجع للنوم، ويكفي لأغنية أحببناها أن تكون سبباً لإيقاظه.

منظر خلّاب لحديقة من زهور الخزامى «لفاندا» بلونها الآخّاذ شاهدتهُ على «نتفليكس» ذكرني بأغنية روسية للمطربة صوفيا روتارو تحمل الاسم نفسه: «لفاندا»، تعود إلى الثمانينات الماضية. تحوّلتُ نحو «يوتيوب» باحثاً عن الأغنية لأعيد الاستماع إليها أكثر من مرة، فأخذتني إلى زمن آخر، أحسبه الآن اكثر بهجة وسعادة، وهذا شأننا نحن المخضرمين، مسكونون دوماً بالحنين إلى ما نحسبه «الزمن الجميل».

هل كان ذلك الزمن جميلاً فعلاً أم أن الأمر يعود إلى أن المستقبل أمامنا اليوم لم يعد بسعته يوم كنّا في أعمار أصغر؟ فالشباب لا يتحدثون عن «زمن جميل» مضى، لأنهم لم يعيشوا الماضي بعد، لذلك فإن أعينهم موجهة نحو المستقبل الذي يريدون ويسعون لأن يكون جميلاً، أما عن زمننا الماضي نحن فإننا نحسبه جميلاً، لأننا ننظر إليه بعين الحنين.

والحنين كما وصفه محمود درويش: «انتقائي كبستاني ماهر، وهو تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب»، وحسب درويش أيضاً، فإن من أعراض الحنين الجانبية: «إدمان الخيال، النظر إلى الوراء، والإفراط في تحويل الحاضر إلى ماض، حتى في الحب، الحنين وجع لا يحن إلى وجع، هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد، وجع البحث عن فرح سابق، لكنه وجع من نوع صحيّ، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل... وعاطفيون!». لعل المرض بالأمل هو نفسه الذي عناه سعد الله ونوس بقوله: «نحن مسكونون بالأمل».

في كلمات أغنية «لفاندا» وجع كذاك الذي تحدث عنه محمود درويش، وجع صحي أيضاً، لأنه يستعيد من الحكاية فصلها الأجمل، يستعيدها وقد صفّيت من شوائبها، فلا يعود وجعها وجعاً، وإنما حال من الشجن الذي يوقظ في النفس ما غفا من الذكريات.

«كم سنة مرت أيها الخزامى الجبلية - تقول كلمات الأغنية - لكننا لا ننساك، يوم كان طائر النورس يحوم فوق أمواج البحر، والقمر يضيء لنا نحن الاثنين فقط، لكننا لا نعلم أين ولى كل ذلك، حتى بتنا مثل كوكبين متباعدين». وفي نوع من التأسي، تقول كلمات الأغنية: «نحن لا نأخذ الحب حين يأتينا على محمل الجد، وحين نفقده نلقي باللائمة على القدر».