لا يمكن القول بأن الانتخابات البلدية أحدثت زلزالاً بنتائجها باعتبار تقدم المعارضة في أكثر من بلدية وخصوصاً سيطرتها على المدن الكبرى في تركيا، لكن مع ذلك يمكن القول بأن هزة عنيفة أصابت المشهد السياسي، حيث وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثقله كاملاً خلف مرشحي حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم مرشح الحزب في إسطنبول مراد كوروم. مدينة إسطنبول رمزية خاصة بالنسبة للرئيس التركي لأنها مسقط رأسه ولأن مساره السياسي بدأ في هذه المدينة، وأيضاً هذه المدينة هي أكبر المدن التركية وهي العاصمة التاريخية لتركيا قبل تحول العاصمة إلى أنقرة، ومع ذلك استطاعت المعارضة التركية السيطرة على بلدية إسطنبول، وكذلك بلدية أنقرة، ينظر على نطاق واسع بأن المعركة الانتخابية لم تكن بين مراد كوروم وأكرم إمام أوغلو وإنما كانت عملياً بين الأخير والرئيس التركي نفسه. تراجع حزب العدالة والتنمية في المدن الكبرى بشكل خاص وعلى عموم الأراضي التركية بشكل عام يمكن رده إلى عدة عوامل من أهمها تحول حزب العدالة والتنمية إلى حزب الرجل الواحد وارتباط التجربة الاقتصادية والسياسية التي عاشتها تركيا خلال العقدين الماضيين بشخص الرئيس أردوغان نفسه، وبدا بأن الدماء الجديدة التي يحاول الحزب ضخها لم تحدث التغيير المطلوب، وبقيت سياسة الحزب مرتبطة بالرئيس دون قدرة على اجتراح التغييرات المطلوبة في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة، وكذلك الأزمة الاقتصادية، وهذه الأخيرة تمثل العامل الآخر الذي لا يقل أهمية وهو حالة التضخم الاقتصادي التي لم تشهد تركيا مثيلاً لها منذ وصول العدالة والتنمية إلى سدة الحكم. أما الوعود التي أطلقها مرشحو الحزب سواء في الانتخابات النيابية الماضية أو في الانتخابات البلدية فذهبت أدراج الرياح ولم تجد طريقها إلى التنفيذ، بل بالعكس الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً والطبقة المتوسطة تتآكل بينما يزداد هامش الفقر خصوصاً في هوامش المدن، إذا ما أضفنا إلى ذلك حالة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، فكان من الطبيعي أن يترجم هذا الواقع الاقتصادي هذه الهزيمة للحزب. ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الانتخابات الأخيرة ليست نهاية المطاف فما زال الرئيس التركي يمسك بمفاتيح اللعبة السياسية سواء داخلياً أو خارجياً. ولعل السؤال الأهم كيف سوف تنعكس نتائج هذه الانتخابات على الصعيد الداخلي، الرهان الأكبر بالنسبة للرئيس أردوغان هو استعادة الوضع الاقتصادي والخروج من الأزمة التي ألمّت به؛ لأن الاقتصاد كان على الدوام هو الكرت الرابح لدى حزب العدالة والتنمية، وهذا لا ينفي الاستمرار في الخطاب الشعبوي الذي عهدناه خلال السنوات الماضية، أما على مستوى الخارج فمن المتوقع أن يكون التصعيد هو سيد الموقف، خصوصاً في إطار التعامل مع الوضع الكردي؛ لأن هذه القضية هي الكفيلة ببناء الوحدة التي يحتاج إليها الرئيس في قادم الاستحقاقات السياسية والانتخابية، لذلك يمكن أن نتوقع هجمات عسكرية على التنظيمات الكردية سواء في سوريا أو في العراق، ولعل النقطة الإيجابية هي أن متطلبات الوضع الاقتصادي تفرض الاستمرار في السياسة المنفتحة التي اتبعتها تركيا خلال السنوات القليلة الماضية تجاه الدول العربية. على المدى القريب والمتوسط يستطيع الرئيس التركي الاستناد إلى حنكته وخبرته الكبيرة، ولكن على المدى البعيد فإن هنالك تحدياً كبيراً يواجه الأردوغانية السياسية.