بعض التقارير الصحفية أبسط ما يمكن أن يوصف به بأنه «ثرثرة صحفية» خالية من الحقائق. لا أستغرب زيف بعض تلك التقارير؛ لأن تلك الصحف تثبت لنا، المرة تلو الأخرى، أنها فعلاً فقدت مصداقيتها، إما بسبب توظيفها لأشخاص لا يتمتعون بخلفيات صحفية جيدة ويفتقرون لأبسط مقومات المهنية أو ربما بحثهم عن الإثارة الصحفية من خلال العناوين أو كما يطلق عليها «الكليك بيتس» لزيادة نسبة القراء أو المشاهدات من خلال إثارة عواطف أو فضول الجمهور. هناك سؤال أشكل على بعض الصحف تفسيره، وهو عن الآليات التي تتبعها السعودية لتحقيق هدف 100 مليار دولار كاستثمار أجنبي مباشر بحلول عام 2030.

سأستخدم لغة الأرقام كدليل لدعم المصداقية وتعزز صحة التأكيدات والاستنتاجات التي سأوردها في هذا التقرير؛ ليكون أكثر إقناعاً وموثوقية وقابلية للقياس والتحقق منها. على الرغم من الانخفاض الحاد للاستثمار الأجنبي المباشر خلال أزمة كورونا في الدول الأوروبية بواقع 70% والولايات المتحدة الأمريكية؛ الذي ناهز 50% وكان سالباً في عدد من الدول الأخرى، إلا أن السعودية حققت نمواً في الاستثمار الأجنبي بأكثر من 4% خلال تلك الأزمة في تأكيد على أن السعودية كانت واحدة من الملاذات الآمنة للشركات العالمية.

ما بين عام 2021- 2023 ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر من 1.5% إلى 2.4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهذه الزيادة تمثل قفزة بواقع 60%، وارتفعت التدفقات النقدية للاستثمار الأجنبي في ذات الفترة بأكثر من 97%. في الأعوام من 2024- 2030 سيكون متوسط التدفقات النقدية للاستثمار الأجنبي ما بين 25%- 33% وهذا يعتبر رقما منطقياً ووفق المعدل العالمي للدول الناشئة والنامية، كما أن هذا المتوسط يأتي مدعوماً بالمحفزات التالية:

أولاً: على المستوى التشريعي والتنظيمي، عندما فتحت السعودية أبوابها على مصراعيها للاستثمار الأجنبي المباشر بعدما اتخذت تدابير جوهرية لتحسين بيئة الأعمال وجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، وذلك من خلال تبني إصلاحات كبيرة لتبسيط إجراءات بدء الأعمال التجارية، وتعزيز حماية المستثمرين الأجانب، وإنشاء المحاكم التجارية لحل النزاعات التجارية، والهيئات التنظيمية المتخصصة لخلق بيئة أعمال أكثر شفافية وكفاءة، وتحديث وسن قوانين جديدة للشركات الأجنبية توفر لهم حماية وحوافز أكبر، متضمنة قوانين تسمح بملكية أجنبية بنسبة 100% في معظم القطاعات، لم يكن الأمر مبنياً على استجداء لتلك الشركات العالمية للدخول للسوق السعودية، بل أدركت تلك الشركات العابرة للمحيطات مدى التزام السعودية بخلق مناخ استثماري عالمي ملائم. وعلى الفور أدت التحديثات على مستوى البنية التشريعية والتنظيمية إلى زيادة ملحوظة في الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة العربية السعودية.

ثانياً: السعودية لا تستهدف جذب الاستثمار الأجنبي المباشر فقط من خلال المشاريع كنيوم والقدية وأمالا كما ذكر التقرير، بل لديها العديد من المبادرات التي تدعم هذا التوجه وسأذكر البعض منها لأن التطرق لها جميعاً يحتاج لمئات الصفحات. شرعت المملكة العربية السعودية في برنامج خصخصة طموح يهدف إلى بيع حصص في العديد من القطاعات العامة مثل الطاقة والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية. ولا تجتذب جهود الخصخصة هذه المستثمرين الأجانب فحسب، بل تعمل أيضاً على تعزيز المنافسة والكفاءة في الاقتصاد. علاوة على ذلك، أنشأت السعودية العديد من المناطق الاقتصادية الخاصة لجذب الاستثمار الأجنبي وتعزيز التنويع الاقتصادي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مدينة الملك عبدالله الاقتصادية؛ وهي مشروع تطوير ضخم على ساحل البحر الأحمر مصمم ليكون مركزاً لمختلف الصناعات، بما في ذلك الخدمات اللوجستية والتصنيع والسياحة، وكذلك مدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية التي جذبت إلى هذه اللحظة استثمارات أجنبية تناهز 10 مليارات دولار. كما أن الدولة وضعت أهدافاً طموحة بمشاركة الشركات العالمية لتطوير قطاع الطاقة المتجددة، وذلك من خلال الاستثمار بكثافة في مشاريع الطاقة المتجددة، بما في ذلك الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وقد أطلقت مبادرات مثل البرنامج الوطني للطاقة المتجددة.

ثالثا: أطلقت المملكة العربية السعودية مبادرات مختلفة لتطوير وجذب الاستثمار الأجنبي في الصناعات الرئيسية. على سبيل المثال، البرنامج الوطني لتطوير الصناعة والخدمات اللوجستية «ندلب» الذي يهدف إلى تحويل البلاد إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي، حيث يقدم برنامج «ندلب» حوافز ودعماً كالإعفاءات الجمركية والضريبية للشركات الأجنبية لإنشاء مرافق التصنيع والخدمات اللوجستية. نفذت المملكة العربية السعودية إصلاحات كبيرة في قطاعها المالي لجذب المستثمرين الأجانب، وذلك من خلال فتح سوق الأوراق المالية «تداول»، أمام المستثمرين من المؤسسات الأجنبية، مما سمح لهم بالاستثمار المباشر في الشركات المدرجة. وقد أدى إدراج الأسهم السعودية في مؤشرات الأسواق الناشئة العالمية، مثل مؤشر MSCI للأسواق الناشئة، إلى تعزيز اهتمام المستثمرين. تعمل المملكة العربية السعودية بنشاط على تعزيز التكنولوجيا والابتكار كمحركين للنمو الاقتصادي وتؤمن أن الاستثمار الأجنبي المباشر شريك وجزء لا يتجزأ من هذا التوجه، وذلك من خلال إنشاء مناطق مخصصة للتكنولوجيا والابتكار لجذب الاستثمارات في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والتكنولوجيا الحيوية، والتحول الرقمي.

رابعاً: اليوم عندما تفتح الشركات العالمية خريطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحثاً عن فرص استثمارية لا تقع أعينهم إلا على المملكة العربية السعودية كوجهة استثمارية لعدة أسباب؛ يأتي في مقدمتها أكبر سوق استهلاكي مما يجعلها وجهة جذابة للشركات العالمية التي تتطلع إلى توسيع وجودها في المنطقة، وأسرع دول G20 من حيث النمو الاقتصادي، وواحدة من الدول التي تتمتع باستقرار اقتصادي ومالي وسياسي واجتماعي، ودولة لديها رؤية إستراتيجية طموحة متمثلة في رؤيتها 2030، وذات موقع إستراتيجي كونها واحدة من أهم بوابات العالم بصفتها مركز ربط للقارات الثلاث؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، مما يعزز مكانتها كمركز إقليمي للتجارة والاستثمار.

في المجمل أدت تلك العوامل إلى زيادة ملحوظة في الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة العربية السعودية. وقد نجحت السعودية في جذب استثمارات من مختلف القطاعات والبلدان، مما يدل على التزامها بخلق مناخ استثماري ملائم لجذب الاستثمارات العالمية وتنويع اقتصادها. وبشكل عام، فإن إنجازات المملكة العربية السعودية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر هي نتيجة للإصلاحات الشاملة، والمبادرات المستهدفة، والرؤية الواضحة للتنويع الاقتصادي. وقد أدى التزام البلاد بتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز الابتكار، وبناء الشراكات الإستراتيجية العالمية إلى نتائج إيجابية، مما جعل المملكة العربية السعودية وجهة جذابة بشكل متزايد للمستثمرين الأجانب.