يعد علم النفس الإداري غصناً من أغصان علم الإدارة، فلم يعد ممكناً التركيز على حل مشكلات المنتجات والخدمات وقراراتها فقط من دون دراسة سلوكيات متخذ القرارات والعملاء، فكل مؤسسة تقوم على أكتاف أفراد وتبيع وتحتك بجمهور لا بد من فهمه. ومما حير العلماء تفاوت سلوكيات الناس، فكم من شخص فصل من عمله أو نفي إلى إدارة نائية لأن مسؤوله المباشر لم يستطع فهم دوافع سلوكياته.

من هنا جاءت أبحاث علم النفس الإداري لتساعدنا كمتخذي قرارات على فهم ما يجري على مسرح الأحداث، فتجد مثلاً ظاهرة اجتماعية تبدو غريبة، وهي أن بعض العملاء (أو حتى الموظفين) قد يتجه نحو شراء منتج بديل أو منافس حينما يشعر أن العبارات المستخدمة في الإعلان تمس حريته في الاختيار، فتجده يفعل أمراً مغايراً تماماً للمطلوب، مثل إعلان «يأمره» بالتالي: «لا تضع قمامتك في مكاننا» مقارنة بعبارة أكثر لطافة مثل: «نرجو المحافظة على نظافة المكان»، أو «شكراً لامتناعك عن التدخين حماية لصحة من حولك»، وهكذا.

يطلق على هذا التصرف تأثير بومرنغ Boomerag Effect، وهو ظاهرة سلوكية يلجأ لها المرء حينما تُقدم له رسالة عفوية لكنها بصيغة لا يتقبل مضمونها فيتخذ موقفاً معاكساً لها، حتى ولو كانت للمصلحة العامة، ولذلك اكتشف علماء الإدارة والتسويق أن ما تسطره أناملك أحياناً أهم من الزخارف والتصاميم في الرسالة الإعلانية والتسويقية. هناك مثلاً من يقول: «هذا أفضل شامبو في المدينة»، فلا يصدق المتلقي ذلك، فيتعمد ألا يشتريه. ربما شعر بعدم احترام عقله، إذ لم يقدم الإعلان دليلاً يدعم ادعاءاته، على سبيل المثال كأن يقول: حسب تصنيف علامة الجودة أو جهة مستقلة وغيرها.

وقد سمي هذا الأمر بتأثير البومرنغ استناداً إلى لعبة تحمل الاسم نفسه، إذ يرمي فيها الشخص أداة سرعان ما تعود إليه، أي أن مضمون الرسالة جاء بنتائج عكسية.

والأمر الغريب نفسه يحدث في علم النفس العكسي Reverse Psychology، وهو أن نحاول إقناع الموظفين أو العملاء بفعل أمر ما من خلال طلب ما هو عكسه تماماً، كأن تقول لموظف: لا أتوقع أن لديك المقدرة على إنهاء هذا التقرير في غضون أسبوع واحد، أو لا أتوقع أن باستطاعتك حل هذه المشكلة بسرعة، فتدب في نفسك الحماسة لإثبات أن العكس هو الصحيح، ذلك يسمى «مُفاعلة» Reactance، وهي عبارة عن ردة فعل حاسمة ضد من يحاول إقناعنا حتى نثبت له أننا يمكن أن نفعل ما لا يتوقع منا فعله. ونرى ذلك في سلوك المراهقين الذين يستميتون لإقناع من حولهم بأنهم صاروا بالغين وبإمكانهم فعل كل ما لا نتوقعه منهم.

نلاحظ أن المعامل والمصانع بقيت بمعزل عن الدراسات السلوكية لقرون طويلة، فكان البشر يعملون تحت وطأة تحقيق الأهداف المادية والربح بأي شكل كان، وهذا لا يعنى أنهم كانوا لا يراعون الجانب النفسي للموظفين لاعتبارات اجتماعية ودينية، لكن انطلق كم من الأبحاث العلمية التي أظهرت لنا أنه يمكن أن نصل لنتائج أفضل إذا اهتممنا مثلاً بعلم نفس إدارة الضغوطات والتوتر، والتقدير المعنوي، وحل النزاعات، وفهم الشخصيات والسلوكيات. كل ذلك كان أمراً جديداً على بيئات العمل، عززته أبحاث الأكاديميين الذي خدموا ميادين التنافس.

وكان في حقبة الثلاثينيات بواكير اكتشافات أقنعتنا أن البشر لا تحركهم الدوافع المادية (المالية) فحسب، بل قد تتوقد طاقتهم بشكل غير مسبوق لإنتاجية أعظم عند اهتمامنا بالجوانب المعنوية والنفسية، وهذا ما حدث في ما يسمى بتأثير مصانع هاوثورن، التي بدأ بعدها الانتقال إلى ما سمي لاحقاً بعلم النفس الإداري، الذي كشف غرائب سلوكياتنا.