ما على البدوي أو ساكن الصحراء سوى أن يرفع رأسه باتجاه الغيوم، فيعرف، بفطرته وذكائه العفوي متى، وأين، سيهطل مطر السحابة فوق رأسه، إنها هديته من السماء. والبدوي يفرح بالماء أكثر ممّا يفرح به ابن المدينة، ذلك الذي يخاف، أحياناً، من الماء، فيسرع إلى مدفأته، وإلى ثياب الصوف، وفي أكثر لحظاته الشعرية قد يعتبر المطر لحظة رومانسية، يشوي خلالها الكستناء، ويفتح الموسيقى، ويطرب.

****

المطر بالنسبة لابن البادية ليس طرباً، وليس لحظة شعرية، إنه رزق مُنتظر، وتحت الماء يذكر البدوي ربّه، ويتذكر أهله، وأبناءه، ويبتسم لهذا الخير الذي جاء بلا حساب.

****

المزارعون والفلّاحون أيضاً يأخذون الماء على محمل آخر، غير محمل ابن المدينة. إن هذا الماء حياتهم، وحياة مواشيهم.

****

في القرية لا يفرح الفلّاح فقط بالماء. الخيل، والطير، وحتى الأشجار كما لو أنها تسبّح، وتشكر، وتصلّي..

****

في القرية، كانت النسوة في المطرة الأولى من كل عام يخرجن في جماعة، بثيابهن السود وأغطية رؤوسهن، محتشمات، يطلقن الغناء تحية لهذا الماء القادم من سماء الله.

****

الماء ابن المطر، الماء ابن السحابة، ابن السماء..

****

يألف الشعراء الريفيّون مطر السماء. إنه الوحي الذي لا يكف عن إهداء الشاعر لغة جديدة هي لغة الماء.

****

في النقد الأدبي، يطيب للكاتب من هذا النوع القول إن قصيدة شاعر ما فيها الكثير من الماء، كناية عن ليونة اللغة، وانسيابية الصور، والملمس الفضّي اللامع للكلأ.

****

ليس الماء هدية السماء للشعراء والمزارعين والبدو وأهل الصحراء، فقط، بل هو أيضاً تحية الغيوم للرسام، والموسيقي والمغني الذي تجري على لسانه المقامات، كما تجري لغة الأمومة، والأبوّة، لغة الإنسان في أقصى درجة من درجات شكره اللّامتناهي لكرم السماء.

****

كل فن جميل استعارة من الحياة والإنسان والطبيعة. أكثر الأعمال الموسيقية عالميةً وعبقرية استعيرت من صوت الماء، ذلك الإيقاع المطري المتقطع والمتواصل، والكريم.