خمسة عقود وأكثر، توهّجت خلالها شمس إمارة "الشارقة" ومشروعها التنويري بالعطاء في ظل حاكمها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى الذي يقدم أنموذجاً مؤثراً وفريداً لقدرة الحاكم "المثقف" على توظيف شغفه المعرفي لمصلحة الثقافة، ليشكل بذلك رقماً فارقاً في تاريخ الثقافة العربية، وبصمة إيجابية في سياق المعرفة الإنسانية.

ليس هذا الكلام بجديد في حق الإمارة الباسمة وشيخها الكريم البشوش، لكن مناسبته صنعت نفسها حين فوجئت بـ"عيّدية" لطيفة كريمة من سموّه، تضمّنت المجموعة الكاملة من مؤلفاته التي تجاوزت الثمانين إصداراً، في مختلف حقول المعرفة من التاريخ والتحقيق والسيرة والأدب والمسرح والدراسات.

وهذا الكنز يعدُّ إضافة نوعية للمكتبة العربية، قبل أن يكون إضافة لمكتبتي المتواضعة، فإصدارات سموّه بمثابة رافد للثقافة الإنسانية، ناهيك عن كونها تشكّل فصلاً مهماً من تاريخ المنطقة العربية، ونموذجاً أصيلاً للحراك الثقافي في دول الخليج.

كثيرةٌ هي كتب سموه -تبارك الرحمن-، كان فيها الفارس الذي يصول ويجول بعمق النظرة الفاحصة الثاقبة في كافة أطروحاته، وفي أجمل صورٍ بصدق منهجية قلمه، فتجده في مؤلفاته "أيقونة ثقافيّة" تحرّضك بشغف نحو الفكر النيّر والثقافة الراقية المعتزّة بالإسلام والعروبة بمنهجٍ "وسطيّ" حصيف معتدل؛ فكانت مؤلفاته متميّزة باحترافيّة المسؤوليّة في الطرح، وأناقة النشر والحضور العلمي الأنموذج، تحفها حماسة تكامليّة تتناثر في كل اتجاهات "الثقافة" وزواياها حتى رؤاها؛ فتداولها الكثير إيماناً وقدوة حسنة لتصبح صدى في القلوب والعقول إلى محصلة من العطاء السخيّ لصناعة الثقافة الإنسانيّة ومستقبلها، تفاعل معها مجتمعه و"الأمتين" وصولاً للعالمية مع نتاجه ورعايته لإبداع الثقافة في مدن وعواصم عالميّة أرادها "سلطان الثقافة" لتقديم التراث والثقافة والحضارة العربيّة والإسلاميّة على طبق من ذهب، ويجعلها قبلة لمثقفي العالم لتحتضن نتاجهم بدءاً من "شارقة الثقافة" التي اختلطت فيها آهات عشقه لأهلها وللثقافة المنبثق عن تفاعل مشاعره مع حس احتوائه لهموم وآلام وآمال الأحداث الجسام التي تمر بها أصقاع العروبة والمعمورة معاً!.

ومن تجربتي الدبلوماسية الثقافية أثناء عملي في الإمارات الحبيبة، وجدت مؤلفات "سلطان الثقافة" حاضرةً دومًا في معرض الشارقة الدولي للكتاب، ومعرض أبوظبي، من خلال دار "منشورات القاسمي" العامرة، محتفيةً بمهنيّة واحترافيّة بهذه الإصدارات مع توفيرها للزائرين، من قراء ونخب ثقافية وفكرية، وضيوف وأكاديميين، مع انتشار عالمي لها في العديد من معارض الكتب الدولية، والمراكز البحثية والأكاديمية، ودور النشر العالمية، وهو ما شكل زادًا ثقافيًا ومعرفيًا للقراء والنخب من حول العالم الذين يحرصون على متابعة مؤلفات سمو حاكم الشارقة، المعروف بكونه من ألمع الكتاب العرب، لاسيما أنه صاحب مشروع ثقافي عربيّ إسلاميّ عالميّ رصين، وممّن تركوا بصمات واضحة في كثير من المؤلفات والكتب التي أصدرها، والتي شكلت معيناً لا ينضب للباحثين والقراء على حد سواء، بما فيها من أثر فكري ومعرفي، وما تبرزه من كشف لحقائق التاريخ.

الأدب الرفيع لصاحب السمو حاكم الشارقة، والذي يمثل فيه التراث العربي، قضية محورية، فهو بقدر ما يتعمق فيه، بقدر ما يطل عبر ذلك العمق على الحاضر، ويفتح نوافذ مشرعة نحو المستقبل، فقد اهتم سموه بالتاريخ والهوية العربية، وقد عززت تلك المؤلفات صور البطولة والشجاعة والإنسانية وغيرها من القيم التي يعتز بها التراث العربي ويفخر، وانفتحت على جوانب عديدة مما يعجّ به ذلك الإرث من دررٍ ومن شخصياتٍ تاريخية كانت لها أدوارها في الثقافة والعلوم العربية.

أما تناول سموه في كتبه في التاريخ والأدب فكان بأسلوب سهل، أخّاذ ممتع، حيث نجد باكورة كتبه كتاب "أسطورة القرصنة في الخليج" وهي أطروحة سموه لنيل درجة الدكتوراه من جامعة اكستر البريطانية عام 1985م، كما نجد اهتماماً لدى سموه بتاريخ المنطقة حيث كتاب "صراعات القوة والتجارة في الخليج" و"كتاب الاحتلال البريطاني لعدن" و"بيان الكويت" و"رسالة زعماء الصومال" وكتاب "جون مالكولم والقاعدة التجارية في الخليج" و"يوميات ديفيد سيتون"، كما أن لسموه كتابا مهما قام من خلاله بتصحيح معلومات تاريخية مهمة في "بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد"، وفي اهتمامه بالخرائط والمخطوطات نجد كتاب "الخليج في الخرائط التاريخية" بجزئيه يحتوي على مجموعة ضخمة ومهمة من الخرائط التي قام سموه بالبحث عنها واقتنائها والاعتناء بها وإخراجها للباحثين والمهتمين.

ومما لفت فكري؛ أحاديث صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي (1972-2018م) والتي كانت في ثمانية أجزاء بنسختين إنجليزية وعربية، والتي تعد أحدث موسوعة فكرية إعلامية جمعت أقوال وخطب ومحاضرات وأحاديث سموه تناولت فيها معظم القضايا السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، تناول فيها مجمل أفكاره ورؤاه وأنشطته من خلال خطبه وزياراته الميدانية ولقاءاته الصحفية والإعلامية مع وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية، التي كانت حافزاً في بناء وطن ومواطن طيلة فترة حكم سموه، التي بدأت منذ العام 1972م وحتى الآن، لتسجل تاريخاً مجيداً وحافلاً بالمنجز الحضاري والإنساني والثقافي.

ختامًا وقولًا واحدًا، مقالةٌ واحدةٌ لا تكفي في إصدارات صاحب السمو -حفظه الله- والتي تمثل إضافة نوعية وكبيرة لخزانة المعرفة العربية، ولمكتبة تاريخ منطقة الخليج كاملة، وتفتح بوابة جديدة لتعميق فهم القارئ العربي والباحث من مختلف بلدان العالم لمراحل مفصليّة من تاريخ المنطقة، ولدولة لها تاريخها العريق والمركزي في الخليج العربي.