في السياسة، لا صوت يعلو فوق صوت المصالح. هذا يصح على الشرق والشمال كما على الغرب والجنوب! وبهذا المعنى، فإنّ الحكومات المسؤولة عن رعاية هذه المصالح المتشابكة، تتبع سياسات يمكن وصفها بالخبيثة، إذ تفرض "ازدواجية المعايير" نفسها عليها. وهذا بالتحديد ما تسبب بهجوم "شرقي" غير مسبوق على الغرب، بسبب سياسته "الداعمة" هنا، و"المتسامحة" هناك و"المتجاهلة" هنالك، تجاه إسرائيل وحربها التدميرية ضد قطاع غزة. ولهذا، لم يتم، يوماً، في علمي الاجتماع والسياسة، قياس حقيقة "سلّم القيم"، على أساس منهجيّة الحكومات واللوبيات المالية والإقتصادية والصناعية، بل على أساس "حساسيّة" الرأي العام عموماً والفئة الشابة، حيث تكون "الإيتوبيّة" و"المثاليّة" و"الاستقامة الفكريّة"، في أوجها، خصوصاً!

في الغرب الديموقراطي، يمكن قياس حقيقة وجود "سلّم قيم"، لأّن الرأي العام يملك وسائل التعبير عن نفسه، وهي وسائل، وقبل توافر منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، طالما تواجدت في الجامعات والشارع والمنتديات الفكرية والثقافية والاجتماعية. وبالفعل، فإنّ أقسى ما واجهته إسرائيل في حربها ضد قطاع غزّة، وبعدما كسرت قاعدة "التناسبية" في ردة الفعل على هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، هو انتفاضة الرأي العام في الغرب الديموقراطي الذي يحتضن حكومات صديقة لإسرائيل ولوبيات منفعية مرتبطة بالكيان العبري. وهذه الانتفاضة في الشارع الغربي ضد حرب إسرائيل على غزة، سحبت نفسها، إلى حد كبير نحو المجتمع الإسرائيلي نفسه، حيث تنمو التظاهرات المعارضة لحكومة الحرب، يوماً بعد يوم، وبدأت تجمع حشوداً ترفع من مستوى قلق القيادة السياسية في الكيان العبري.

وما يحصل في الجامعات الأميركية وبدأ يجد صدى واسعاً، في أهم الجامعات الأوروبية، كمعهد العلوم السياسية في باريس، ليس تفصيلاً عاديّاً، إذ إنّ التطوير الذي حصل في الغرب، على مدى العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، إنّما وجد مقلعه الأساسي في الجامعات. والقمع الذي يتعرض له الطلاب الجامعيون اليوم، بمناسبة إعلان الوقوف ضد الحرب الإسرائيلية ضد غزة، يبدو "دلعاً"، في حال جرت مقارنته بالسلوكيات القمعية، في زمن مضى، قياساً، على سبيل المثال لا الحصر، ذاك الذي مارسته الولايات المتحدة الأميركية ضد معارضي الحرب على فيتنام، وفرنسا ضد "ثوار التحرر الاجتماعي" في العام 1968. وهذه الانتفاضة الجامعية في الغرب ضد إسرائيل لمصلحة فلسطين، لم تكن ممكنة لولا توافر "سلّم قيم" حقيقي فيه! والانقسام الذي يشهده الرأي العام في الغرب، تجاه القضايا العالمية، ليس حكراً عليه، بل هو متوافر أيضاً في كثير من الدول، ولكنّ قدرة الرأي العام في التعبير عن نفسه في الدول غير الديموقراطية، ضئيلة جدّاً حتى لا نقول منعدمة الوجود.

وبهذا المعنى، هل يمكن لما يوصف - من دون قياس موضوعي وعلمي وحيادي - بالأقلية الشعبية، أن تعبّر عن نفسها في جنوب لبنان ضد "حزب الله"، وفي غزة ضد "حماس" وفي سوريا والعراق ضد "محور المقاومة" وفي إيران ضد نهج "نظام الملالي" وفي روسيا ضد الحرب في أوكرانيا وفي الصين ضد سياستها التايوانيّة، أو في أي بقعة أخرى في العالم، من دون أن تُسفك الدماء بغزارة وتنصب أعواد المشانق وتقام مئات المعتقلات؟

إنّ الغرب، مهما قيل عنه وفيه، لا يزال، بفعل سلّم القيم، يدافع عن "مبادئه" في وجه حكوماته وقوى الضغط النفعية، من دون أن يدفع الرأي العام فيه أثماناً غير إنسانية لقاء ذلك، فالوافد المعارض لا يطرد من البلاد لأنّه تظاهر، والمجنّس لا تنتزع جنسيته لأنّه عبّر عن رأيه، والمواطن لا يحرم من التقديمات الصحية والخدمات العامة لأنّه رفع الصوت عاليّاً، والزنزانة يمكن أن تكون محطة يعبر بها من يرفق غضبه بسلوك عنفي، ولكنّها لا يمكن أن تصير مقرّه! بطبيعة الحال، هؤلاء الذين ينتفضون ضد سياسات حكوماتهم الديموقراطية، ضد مسائل داخلية أو إقليمية أو دولية، لا يدافعون عن أنظمة قمعية أو تنظيمات عنفية يمكن أن تستفيد منهم، ولكن يدافعون عن مبادئهم، حتى لو استفاد منها الشيطان نفسه، لأنّ القاعدة الأخلاقية، ولا سيّما لدى الفئات المثالية، مثل الشباب، لا تقبل أن تتحوّل الى إرهابي بداعي محاربة الإرهاب! وهذه الظواهر، هي واحدة من الأسباب التي دفعت علماء السياسة إلى التعبير عن اعتقادهم الراسخ بأنّ علاج أمراض الديموقراطية الوحيد هو مزيد من الديموقراطية!