يروي أوّل رئيس للجمهورية الإسلامية في إيران أبو الحسن بني صدر الذي توفي في منفاه الفرنسي قبل ثلاث سنوات، في كتابه الشهير "مؤامرة آيات الله"، بين ما يرويه عن تجربته خلال الثورة وأثناءها وخلال توليه رئاسة الجمهورية، أنّ "آيات الله" تعاطوا مع الجيش الإيراني، على الرغم من أنّه كان يبذل التضحيات الجسام في الحرب ضد العراق، على أساس أنّه من مخلفات زمن الشاه، وتعشّش العقائد الغربية عمومًا والأميركية خصوصًا في ثناياه، ما أعانهم على تهميشه لمصلحة إعطاء الأولوية التسليحية والمالية والاقتصادية والسياسيّة والسلطوية والسيادية، لـ"الحرس الثوري الإيراني".

وتظهر التطورات الكثيرة في إيران، بدليل الأخيرة منها، أنّ "الحرس الثوري الإيراني" وليس الجيش الإيراني هو من يتولّى العمليات العسكرية الأساسية، بينها الهجوم بالمسيّرات والصواريخ على إسرائيل، وخطف السفن في البحر، وتزويد التنظيمات العسكرية الموالية بالمال والسلاح والعتاد، وتنسيق الجبهات.

ويبدو أنّ الجيش الإيراني، بعد أكثر من 46 سنة على نجاح الثورة الإسلامية، بمثابة قوة احتياط لـ"الحرس الثوري الإيراني".

وبالتدقيق، يظهر أنّ "حزب الله" نقل هذا السيناريو الإيراني إلى لبنان، ويعمل بلا هوادة على ترسيخه.

ومنذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي تمّ تهميش الجيش اللبناني، في كل ما يتصل بالحدود اللبنانية - الإسرائيلية، واستولى "حزب الله" على الأرض التي تمّ إسنادها دستوريًّا وقانونيًّا و"معاهداتيًّا"، بصورة حصرية إلى الجيش اللبناني مدعومًا من اليونيفيل، بموجب القرار 1701!

وظهر الجيش اللبناني، منذ ذاك اليوم، كما لو أنّه مجرد بديل مؤقت، في مراحل الهدنة، من "المقاومة الإسلامية في لبنان" التي تعود إلى ممارسة دورها السيادي، بمجرد أن يقرر "حزب الله" إسقاط "الهدنة" والعودة إلى الحرب.

ومع إسقاط دور الجيش اللبناني في المنطقة الحدودية مع إسرائيل، تمّ إسقاط دوره في المناطق التي تحتضن "المقاومة الإسلامية" حيث وُجدت و"سراياها" في لبنان، وبات ما يصح على الضاحية الجنوبية في بيروت والبقاع يصح أيضًا على بيروت وعكار وغيرها من المناطق اللبنانية.

وقد تعرّضت صورة الجيش اللبناني لضربة كبيرة، يوم الأحد الأخير، عندما استعرضت الجماعة الإسلامية في لبنان بعض مقاتليها في عكار، على اعتبار أنّ هؤلاء "مقاومون" ضد إسرائيل.

ومنذ بدأت الأصوات المحلية والإقليمية والدولية ترتفع للمطالبة بالعودة إلى احترام القرار 1701 وتعزيز وجود الجيش اللبناني على الحدود، شنت المجموعات الموالية لـ"حزب الله" حملة تُظهر هذا الجيش عاجزًا عن حماية لبنان، بمواجهة إسرائيل، على اعتبار أنّ تسليحه "ضعيف" و"ليس استراتيجيًّا"، الأمر الذي دفع برئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، وهو كان قائدًا للجيش لمدة 9 سنوات، وتولّى في عام 2006 نشر الجيش في الجنوب الذي كان محظورًا عليه في السنوات السابقة، إلى الدفاع عن فاعلية المؤسسة العسكرية قائلًا إنّ قوة الجيش لا تقاس فقط بنوعية الأسلحة والأعتدة التي يملكها بل بمعايير متعددة حسب ترتيب الأولويات التالية: الشرعية السياسية والتزامه بقرار الدولة. الشرعية الشعبية والتفاف الشعب حوله. القيم الإنسانية التي يعتنقها ويمارسها. وحدة القيادة وشرعية الأهداف التي تحددها(...)".

ولكنّ المنطق الوطني شيء مختلف تمامًا عن أهداف "حزب الله" الذي يعمل، بلا هوادة، على استيراد النموذج الإيراني، بكل معاييره، إلى لبنان!

إنّ هذا الحزب يتطلع إلى "تأبيد" سلاح "المقاومة الإسلامية في لبنان" وإعطائه وظائف هي، في معظمها، من صلاحية الجيش اللبناني، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلّا بتهميش القوات المسلحة اللبنانية من خلال "تهشيمها"!

وليس سرًّا أنّ "حزب الله" يتعاطى بكثير من التشكيك مع المؤسسة العسكرية، بسبب صلاتها المميّزة مع الغرب عمومًا، ومع الولايات المتحدة خصوصًا.

وقد سبق لهذا الحزب أن أعلن على لسان أكثر من مسؤول فيه أنّه "صابر" على مشروع تحرير المؤسسات اللبنانية من النفوذ الأميركي.

ولكن، بما أنّ الحزب قد يواجه عراقيل عدة تحول دون ذلك، فهو ماض في قرار تهميش المؤسسة العسكريّة، بحيث يستخدمها كقوة رديفة تؤازر، عمليًّا، استمراره عسكريًّا.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يحتاج "حزب الله" إلى بسط نفوذه على مؤسسات القرار في البلاد، فهو بعدما ضمن التحكم بالمجلس النيابي من خلال رئاسته ومجلس الوزراء من خلال "الثلث المعطل"، يفضل الفراغ الرئاسي إن لم تأته الانتخابات برئيس "مطواع " للجمهورية!

في الواقع، إنّ المعركة السياسية التي تحتدم حاليًّا، في لبنان، تحت عنوان تنفيذ القرار 1701، لا تهدف إلى منع توسيع الحرب الحدودية فقط، بل تتطلع أيضًا إلى إعادة الاعتبار لدور الجيش اللبناني، ومنع "حزب الله" من تحقيق أحد أهداف "حرب المساندة" الخفيّة، أي رمي الجيش اللبناني خلف "المقاومة الإسلامية في لبنان"، كما هو حاصل في إيران، حيث تمّ تكريس رمي الجيش الإيراني خلف "الحرس الثوري".