استشعرت أوروبا خطر "زحف" المهاجرين من لبنان. قبرص هي أقرب يابسة في الاتحاد الأوروبي من الشواطئ اللبنانية. تخوّفت نيقوسيا من "تسونامي" قادم، فجرى تداول نقاش قديم جديد بين قبرص ولبنان استدعى زيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس بيروت في 9 نيسان (أبريل) الماضي. اهتمت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بالهواجس القبرصية من زاوية أن بإمكان البلد العضو في الاتحاد الأوروبي حمل ملف النازحين في لبنان إلى بروكسل ليعود إلى بيروت بحلّ سحريّ ما.

عاد فعلاً في 2 أيار (مايو) الجاري مصطحباً هذه المرة "أوروبا".

وصل الرجل بصحبة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. بدا أنها تحمل خبراً ساراً ناقشته مع أولياء السلطة في بيروت. وحين نطقت عبارة "منحة" ثم "مال" ثم مليار يورو كان سهلاً ارتسام علامات السرور على محيا رئيس الحكومة والشخصيات اللبنانية التي شاركت في استقبال الضيوف الأوروبيين. لاحقاً ارتفع جدل محلي بشأن "الرشوة" و"الفضيحة". كُشف عن تبرؤ رئيس مجلس النواب وأنه "لم يكن يعلم". استدرج الجدل جلسة برلمانية في 15 الجاري.

منحة المليار يورو، وفق خطبة الرئيسة الأوروبية، تمتد على 4 سنوات وكأن أوروبا تخبر لبنان أن النزوح "باق ويتمدد". أي أن مبلغ 250 مليون يورو يفترض أن يحلّ أزمة النازحين الحادة في لبنان التي تُلصق بها أزمات الاقتصاد والأمن والتحوّل الديموغرافي في البلاد. منذ عام 2011 دفع الاتحاد الأوروبي أكثر من 11 مليار يورو إلى تركيا لمكافحة الهجرة. والفرق بين حجم المنحتين يعود ربما إلى التناسب مع حجم النزوح في البلدين. أرقام بيروت تتحدث عن 1.5 مليون نازح وأرقام أنقرة تتحدث عن 4 ملايين نازح (من سوريا ومن جنسيات أخرى).

غير أن الكرم الأوروبي في تركيا مقابل ما هو أقل كرماً في لبنان يعود أيضاً إلى تفاوت قوة الدولة في البلدين. تمكّنت تركيا خلال السنوات الأخيرة من انتزاع منح مالية هائلة من أوروبا بعدما خبرت دول الاتحاد تجربة عام 2015 حين فتحت تركيا منافذها البحرية والبرية فوجدت أوروبا نفسها غارقة في بحر من نزوح. هزّ الحدث مداميك النظام السياسي الأوروبي. اختلفت دول الاتحاد على "كوتا" الحصص لتوزيع النازحين إلى درجة أن أعضاء هددوا بمغادرة النادي الأوروبي. فتحت المستشار الألمانية أنجيلا ميركل أبواب بلادها لمليون من النازحين وسط جدل بشأن خطر تغيير وجه البلاد. دخل النازحون، فراجت مواسم التيارات الشعبوية المناهضة للهجرة، وازدهر حصاد أحزاب اليمين المتطرّف.

لا سوابق للبنان تشبه سوابق تركيا. الأخيرة عرفت كيف تبتزّ أوروبا وتجبر بلدانها على فتح خزائنها لتمويل "حراسة" تركيه تمنع عنها جائحة الهجرة من الشرق. لا سوابق لبنانية ولا يمتلك البلد في ضعفه وتصدّع اقتصاده وانقسام منظومته السياسية وغياب رأس للسلطة فيه أن يبتزّ ويمارس فنون اللعب على هواجس أوروبا ومخاوف قبرص. لا دولة مركزية موحّدة متينة في لبنان تملك مواهب التفاوض وفرض الشروط وإملاء القواعد والخيارات على منوال ما تملك تركيا، سواء حكمها رجب طيب أردوغان وحزبه أم حكمتها شخصيات ومشارب سياسية أخرى.

لا تحلّ "منحة أورسولا" أزمة النزوح السوري في لبنان. لم تكذب السيّدة. كانت واضحة في شرح أهداف المنحة ومهماتها. وإذا ما تجاوزنا صيغ الكلام الدبلوماسي المنمق، فإن أوروبا تموّل "حُراساً" في لبنان يدفعون عنها موجات النزوح. خلاصة الكلام: أبقوهم عندكم، ارفعوا أسواركم، وأنفقوا مال أوروبا، وفق كلماتها، على أجهزة الأمن والحراسة والبنى التحتية الضرورية لمراقبة الحدود بحراً وبراً. لا يستفيد النازحون أنفسهم من البحبوحة المليارية الأوروبية، فهم أرقام في جداول برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة WFP الذي يقدّم قسائم غذائية لعائلات النازحين، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR التي تقدّم مساعدات مالية مباشرة وغير مباشرة للنازحين وللمجتمع المضيف. وحين حملت "أوروبا" مليارها "الأمني" كانت تلك الجهات "الإنسانية" تُبلغ بيروت تراجع موازناتها وبالتالي مِنَحها للنازحين.

المفارقة أن بيروت حين تودّ فتح ملف النزوح السوري إلى لبنان تتوجه غرباً سعياً وراء الدعم والمدد. بالمقابل فإن أوروبا حين أرادت معالجة هذا "الخطر" ذهبت شرقاً إلى مصدره في لبنان حيث يمنّي النازحون مع شرائح لبنانية النّفس بخوض يائس لمغامرة الإبحار نحو الفرج. وعلى منوال دراية أوروبا بعلم الجهات ومصادر العلّة، وجب على بيروت أن تدرك أن النازحين يأتون من الشرق حيث كارثة سوريا تدفع بهم إلى لبنان وتركيا والأردن وبقاع الأرض البعيدة.

من خبث الضيوف الأوروبيين أنهم جاؤوا إلى لبنان وهم يعرفون أن كارثة النزوح مصدرها سوريا. بدا أن بروكسل وبيروت تجاهلتا سوية وبكل تواطؤ مصدر العلّة. لا لبنان موحد ولا هو جدّي في الحديث مع دمشق، ولا أوروبا جاهزة لفتح ملف أزمة لا يريد العالم إقفاله. لا تعترف أوروبا بحلّ سوري إلا وفق القرار الأممي 2254. يحتاج الغوث الأوروبي لسوريا إلى معجزة تنتج تسوية سياسية سورية تبدو مستحيلة. فحتى حين أعلن الرئيس السوري بشّار الأسد أخيراً وجود تواصل مع مسؤولين أميركيين، سارعت واشنطن إلى نفي أي تطبيع مع نظام دمشق من دون تسوية تمر عبر ذلك القرار.

في لبنان نزوح سوري لأسباب سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو عمالة غير مقنّنة. وعلى الحدود اللبنانية السورية عشرات المعابر غير الشرعية التي لا تقفلها حكومة بيروت أو لا تستطيع ذلك. في شباط (فبراير) الماضي احتجّت دمشق على الأبراج الحدودية المقدمة من بريطانيا لمراقبة الحدود. قالت إنها أبراج "تشكل خطراً على الأمن القومي السوري وتجمع معلومات عن الداخل السوري" لمصلحة عواصم بعيدة. وإذا ما يشكو ساسة البلد من معضلة يعتبرونها "أم الكوارث"، فإنهم غير متفقين على ضبط حدودهم وإقفال ما قيل إنها 130 منفذاً غير شرعي على حدود البلد شمالاً وشرقاً. وسيصعب تصوّر أن "نواب الأمة" في جلسة برلمانهم سيصدون مجتمعين قرارات وتوصيات وحتى قوانين تعالج شيئاً من المشكلة.

وإذا ما كان حلّ دولي شامل لأزمة النزوح يحتاج إلى حلّ شامل لأزمة سوريا السياسية، فإن حلولاً مرحلية تعيد شرائح من النازحين من لبنان إلى بلادهم كانت قد نفّذت في السنوات الأخيرة بجرعات خجولة ونجاعة غير مقنعة تحت إشراف المدير العام السابق للأمن العام اللبناني عباس إبراهيم. غير أن علاقة لبنانية رسمية مع النظام في سوريا يفترض أن تنظّم خريطة طريق مرحلية تنظّم بالحدّ الأدنى على الأقل جزئياً ونسبياً كيفية تخفيف العبء عن كاهل لبنان.

فدمشق عادت إلى جامعة الدول العربية، حيث لبنان عضو مؤسّس، ولا شيء يمنع التواصل الرسمي المباشر بغية الحصول على ردّ رسمي مباشر. لسان حال دمشق يتهم أوروبا وهذا الغرب بحرمان سوريا من أصدقائها المانحين. هي حجّة، بغضّ النظر عن نقاش ظروفها وأسبابها، تعني أن دمشق لا تريد أو لا تستطيع استعادة نازحيها إلى "حضن الوطن". هي تنتظر اعترافاً يأتيها، على منوال بيروت، بالمدد.