كشفت منظمة الأمم المتحدة مؤخراً أن هناك نحو 4ر5 مليون عراقي قد نزحوا وفروا من منازلهم في العراق منذ سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على مساحات واسعة من شمال العراق ووسطه خلال السنوات الثلاث الماضية. وقالت ليز غراند، منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق، إن "مئات الآلاف من الأشخاص من بينهم عشرات الآلاف من الأطفال الصغار تعرضوا لخطر شديد وضغط وصدمات نفسية، وسيحتاجون إلى دعم ورعاية متخصصة لسنوات قادمة".

هذا هو أحد الاثمان الباهظة التي دفعها الشعب العراقي بسبب النشاط الإرهابي على أرضه: تشريد ملايين الأشخاص، وخلخلة الهندسة الديموجرافية العراقية، ما يطرح بالتبعية تساؤلات عن مدى تواطؤ إيران ووكلائها من الساسة العراقيين في هذا المخطط الداعشي!

البعض يطرح تساؤلات مشروعة: هل كان تمدد تنظيم داعش في المحافظات العراقية السنية تحديداً بفعل فاعل ومخطط له من جانب إيران كي يتم تفريغ هذه المناطق من سكانها المسلمين السنة وتهجير إلى هذه المناطق ملايين الشيعة بدلاً منهم، أو على الأقل الاكتفاء بتفريغ المناطق السنية من سكانها؟

التقارير تشير إلى فرار أكثر من نصف مليون شخص من الموصل وحدها حينما اجتاحها تنظيم "داعش" بالإضافة إلى 800 ألف آخرين فروا خلال العملية العسكرية التي جرت لاستعادة السيطرة على المدينة والتي استمرت شهوراً، كما فر آلاف آخرين من الحويجة التي استعادتها ميلشيات الحشد الشيعي والقوات العراقية من قبضة التنظيم الإرهابي.

الشواهد الحاصلة في العراق وسوريا الآن تؤكد أن تنظيم "داعش" لم يولد من فراغ، ولم يسيطر على هذه المساحة الشاسعة من الأراضي بفعل قوته الذاتية، بل فتح لعناصره الطريق في أحيان كثيرة من أجل تحقيق مصالح معينة لقوى إقليمية توسعية كانت تريد قضم العراق والتهامه، وإلغاء وجوده كدولة عربية عريقة ومؤثرة في محيطها الإقليمي وتوازنات القوى الإقليمية.

موضوع التهجير والهندسة الديموجرافية ملف قديم في العراق، وسبق أن استخدمه نظام صدام حسين ضد خصومه الأكراد والشيعة العراقيين، حيث جرت حملات تطهير عرقي وطائفي، وكان يتوقع انتهاء هذه الممارسات الكارثية بعد سقوط هذا النظام، ولكن الشواهد تؤكد ظهور أشكال أخرى من التهجير تحت ضغط الفوضى والاضطراب أو الخوف من تنظيم "داعش" وأعمال القتل التي ترتكبها ميلشيات الحشد الشيعي، علماً بأن التهجير لم يقتصر على المسلمين السنة بل شمل المسيحيين واقليات أخرى، وتعكس تصريحات مسؤولين محليين عراقيين حدوث تغييرات في نسب العرب السنة في مدن مثل البصرة والموصل وغيرهما بسبب عمليات التهجير الطائفي، والأمر نفسه ينطبق على تهجير عائلات شيعية من محافظات عراقية مثل الناصرية وغيرها إلى مناطق ومحافظات أخرى!

الكارثة أن بعض التقارير تقول إن أرقام النزوح ليست دقيقة، وأن الأرقام الحقيقية أكبر من ذلك بكثير لأن المعلن يعبر فقط عن الأعداد الموجودة في أماكن قابلة للحصر مثل المخيمات وغيرها، أمام العوائل التي نزحت وسكنت مع أقاربها في مناطق أخرى فلم تخضع للحصر في معظم الأحيان.

لم تكن إيران تفكر في إقدام أكراد العراق على خطوة الاستفتاء الذي يمهد للاستقلال حين ركزت على إعادة هندسة المناطق الشيعية والسنية، ولكنها فوجئت بسيناريو الانفصال الكردي الذي خلط كل أوراقها مع تركيا، التي ارتكتبت أيضاً أخطاء كارثية حين عمقت انفصال إقليم كردستان عن العراق اقتصادياً وسياسياً وأسست لهذا التوجه من دون أن تدري أنها ترتكب خطأ استراتيجي فادح!

إن الممارسات الكارثية التي ارتكبتها إيران والحكومات العراقية المتعاقبة قد أسست لعزلة بين المذاهب والقوميات، ما يتطلب رسم خارطة طريق حقيقية تسهم في احتواء التوترات بين المذاهب والطوائف والعرقيات، فالحل في العراق لابد أن يأتي عبر تكريس صيغة تعايش حقيقية يضمنها الدستور والقوانين وتطبقها الدولة العراقية بحيادية تامة، وعدا ذلك فإن سيناريو التقسيم طبقاً للهندسة الديموغرافية التي أسست لها إيران سيكون الشبح الذي يهدد العراق.

المأمول الآن من الساسة العراقيين الوطنيين العمل على معالجة أخطاء الماضي ولم شمل هذا البلد الشقيق، الذي لا يليق به أن يتحول إلى "ساحة لعب" لميلشيات الحرس الثوري الإيراني.