بسبب توسع مفهوم السوق وازدياد تشابك العلاقات الاقتصادية وحرية انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات بين الدول وقيام الحكومات بتنفيذ خطط وبرامج تنموية كبيرة واقتحام عدد غير قليل من رجال الأعمال عالم السياسة عبر طريق الاستفادة من مواقعهم الاقتصادية للتسلل إلى المراكز الحكومية والبرلمانية من أجل إحكام سيطرتهم على حلقات صنع القرار في الدول بما يضمن لهم توسيع دائرة النفوذ والمحافظة على مكاسبهم.

ونتيجة لهذة المعطيات الجديدة ظهر مفهوم رائج بأن السياسة وأفعالها قد تراجعت مكانتها لصالح الاقتصاد ، وصار الأخير هو يقود السياسة بمعنى أينما يذهب الاقتصاد تتبعه السياسة..إلا أنني أختلف كثيرا مع هذا المفهوم أو المقولة إذ ظل المال والتجارة منذ نشوء الدول والإمبراطوريات لصيقاً بالحكم والسياسة التي هي من يقرر مساحة الحركة أمام رأس المال المتسم دائماً بالخوف والحذر ، على العكس من السياسة التي تقرر الحرب والسلام وتحدد الضرائب وتشرع القوانين الناظمة للعمل التجاري ، ويكفي للدلالة أن نشوء الدول والكيانات كان نتيجة قرارات سياسية وليس اقتصادية ، فإذا كانت الحرب مثلما ذكر الكتاب الأوائل هي امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى فأين هو موقع المال والاقتصاد حينما تحبس بورصات الأسهم في العالم أنفاسها وهي تترقب قراراً سياسياً أو فعلاً من أفعال السياسة سواء كان حرباً أم سلماًأو صلحاً بين الدول المتنازعة .

في الواقع إن التطرق إلى هذه النقطة ليس ترفاً نظرياً كما يبدو للبعض في الوهلة الأولى ، إنما يهدف إلى توضيح المفاهيم في إطار سياقها المنطقي والتراتبي اولاً ودراسة اعتيادية لتوضيح مدى تأثير الاقتصاد على السياسة ثانياً .

فالتقلبات السياسة والأمن الدولي ونشوب الحروب وإبرام معاهدات السلام واتفاقيات الحدود وتبديل العملة وتوفر الاستقرار السياسي كلها قضايا حاسمة في حركة واتجاهات الاقتصاد، صحيح أن بعض الدول تستخدم المساعدات الاقتصادية وفق ما يتلاءم وسياساتها إلا أن الأخيرة على الرغم من أنها تنتمي إلى فئة الاقتصاد لكنها تظل سلاحاً سياسياً.

وفي جانب آخر من جوانب الموضوع نجد أن من طبيعة سلوكيات الأفراد المتاصلة في النفس البشرية ومنذ القدم هو ذلك السعي المحموم نحو مواقع السلطة والثروة بهدف ضمان النفوذ لكن العلاقة بين من يملكون الثروة وبين من يقبضون على السلطة مدفوعاً باعتقاد راسخ أن تملك الثروة هو اكثر ديمومة من امتلاك السلطة، والتي ستزول يوماً ما بفعل عوامل عديدة أقلها غضب الحاكم.

وفي أحيان أخرى ترسم لنا اشكالاً إضافية من التعاون يصل إلى حد تأسيس روابط اجتماعية متينة عبر المصاهرات والزيجات المتعددة بين السلطة والمال ،إلا إن النظام السياسي يظل يراقب بعين الحذر طريقة تشكل هذه العلاقات ومسرح تبادل الأدوار بين مواقع الثروة ومراكز السلطة بهدف تطويعها لخدمة أغراض استمراية النظام فيلجأ أحيانا إلى المباركة وأحياناً يمارس الاعتراض الذي يبلغ أعلى حدوده عند قمع هذه العلاقات وإعادتها إلى حجمها الطبيعي من خلال تصور صانع القرار أن هذه العلاقات المستحدثة يمكن أن تخلق حالة من التأزم للنظام أو أنها ربما تشكل تهديداً مستقبلياً لاستمرارية الحكم عبر سعي هذه التحالفات إلى نسج قاعدة شعبية لها في الأوساط الملائمة . 

ومكمن خطورة وجود مراكز لقوى اقتصادية شرسة ذات نفوذ سياسي معين هو في قدرة هذه المراكز والقوى على استقطاب النخب الفاعلة في المجتمع لذاتلجأ أغلب الحكومات إلى سياسة تشجيع تواجد رؤوس الأموال والاستثمارات القادمة من الخارج للحد من النفوذ وتأثيرات المراكز والقوى الاقتصادية المحلية لأنه مهما كان الاختلاف حول تقييم أهمية تواجد الاستثمارات الخارجية وفوائدها الكبيرة للاقتصاد الوطني في زيادة حجم الأموال المستثمرة في تنمية البلاد وجلب تكنولوجيا متطورة وخبرات مهمة لتطوير مهارات العمالة الوطنية إلا أنها في النهاية لا ترغب في التدخل في شؤون الحكم الداخلية ولا تشكل تهديداً على مستقبل نظام الحكم لأنها كائنات لطيفة تسعى إلى تحقيق الربح فقط ، ومن مصلحتها أن تقدم الولاء والطاعة للقوانين النافذة واحترام تقاليد مؤسسة الحكم.