أقل من أسبوعين يفصلان العالم عن قرار الرئيس ترامب بشأن الانسحاب من الاتفاق النووي الموقع مع إيران، وبحكم بحكم اهتمامي البحثي، اتباع بدقة التطورات المتسارعة بشأن الاتفاق النووي أو "إطار اعمل المشترك" الموقع بين إيران ومجموعة "5+1"، حيث كان الاتفاق محور زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون وكذلك زيارة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل إلى واشنطن مؤخراً.

في رصدي لمجمل الأحداث المتواترة حول ملف إيران النووي، هناك أمور عدة أولها زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى واشنطن ونتائج محادثاته مع الرئيس ترامب بشأن الاتفاق النووي، حيث ذكرت صحيفة "التايمز" البريطانية أن الرئيس الأمريكي قد نجح في تغيير وجهة نظر نظيره الفرنسي حيال إيران، ويقول التقرير إن ترامب قوض آمال حلفاء الولايات المتحدة في أن تضعف معارضته للاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، بتشديده على أن وجهة النظر الوحيدة التي تغيرت خلال الزيارة الرسمية التي قام بها ماكرون للولايات المتحدة هي وجهة نظر الزعيم الفرنسي، ونقل التقرير عن ترامب وصفه لماكرون بقوله "اعتقد أنه ينظر إلى إيران الآن بشكل مختلف عما كان عليه قبل أن يخطو إلى داخل المكتب البيضاوي، لقد أدرك وجهة نظري بشأن إيران".، وخلص ماكرون بحسب التقرير إلى أن ترامب سيتخلص من الاتفاق مع إيران "لأسباب داخلية"، وسيفرض "عقوبات قاسية جدا" على إيران.ويشير التقرير إلى أن ماكرون قد ذهب إلى واشنطن لإقناع ترامب بفكرة اتفاق جديد مع إيران يحافظ على الاتفاق الحالي ويضيف إليه قيودا إضافية على القدرات النووية الايرانية، فضلا عن برنامج انتاج الصواريخ ونفوذ إيران في الشرق الأوسط، على مدى طويل. 

بجانب ماسبق، كان الرئيس ماكرون قد صرح في نهاية زيارته بأنه يتوقع أن ينسحب ترامب من الاتفاق الموقع عام 2015، وقال الرئيس الفرنسي إنه ربما يكون قد فشل في إقناع نظيره الأمريكي دونالد ترامب، بالإبقاء على الاتفاق النووي الدولي مع إيران.

الاتفاق النووي كان أولوية قصوى ضمن برنامج زيارة ماكرون التي أقر في نهايتها بأنه فضل في مهمته، وانتهي إلى أنه سيعمل مع ترامب، على بناء "إطار جديد" في الشرق الأوسط وخاصة في سوريا. والفشل لاحق ايضاً ـ فيما يبدو ـ مهمة المستشارة الألمانية في واشنطن، حيث اكتفت بالقول إنها ستبقى على اتصال مباشر مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بشأن اتفاق إيران النووي، والبديهي أن ميركل التي استغرقت زيارتها لواشنطن ثلاث ساعات، لم تكن لتنجح فيما فشل فيه ماكرون الذي استغرقت زيارته ثلاثة أيام، وكانت أول زيارة دولة لزعيم أجنبي للولايات المتحدة، حيث ألق خلالها كلمة امام الكونجرس وقوبل باحتفاء ملحوظ من الرئيس ترامب والكونجرس معاً.

لم يكن ترامب على استعداد أن يظهر خلال زيارات الزعماء الأوروبيين بمظهر الرئيس الذي يمكن أن يتخلى عن موقفه تحت ضغوط الحلفاء، لذا كان حريصاً على إظهار العكس تماماً، أي أنه نجح في تغيير مواقف زواره حيال إيران، وكانت ميركل واضحة حين قالت "لدينا آراء مختلفة، القرار يعود إلى الرئيس".

اعتقد أن هذه الزيارات قد سلطت الضوء بشكل غير مباشر على توافق الدول الغربية الموقعة على الاتفاق حول ضرورة احتواء النفوذ الإيراني، سواء بتوسيع إطار الاتفاق القائم، كما ترى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أو بناء اتفاق بديل، كما يرى ترامب؛ فالموقف الألماني يرفض تطوير برنامج إيران النووي، ويشدد على ضرورة احتواء طهران وكبح جماحها في منطقة الشرق الأوسط.

وجهة نظر أوروبا تنطلق من عدم وجود بديل يمكن أن يحل بدلاً من الاتفاق القائم، حيث تنظر أوروبا بنوع من القلق حيال السنوات الطويلة التي استغرقتها مفاوضات الاتفاق النووي، كما تبدو قلقة أيضاً حيال تهديدات إيران باستئناف برنامجها النووي وتسريع وتيرة التخصيب في حال انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، حيث تبدو أوروبا تحت تأثير قوي للحملة الدعائية النفسية التي يشنها نظام الملالي لتخويف الغرب من عواقب الانسحاب الأمريكي ودفع القادة الأوروبيين للضغط على الرئيس ترامب لتغيير موقفه.

وزير الخارجية الأميركي الجديد مايك بومبيو قال إن الرئيس دونالد ترامب، لم يتخذ حتى الآن قراراً بشأن الانسحاب من اتفاق إيران النووي، لكن من المستبعد أن يبقى من دون تغييرات جوهرية، وأضاف "ما لم يتم إجراء إصلاحات ملموسة، وبدون التغلب على عيوب الاتفاق، من المستبعد أن يبقى ترامب في ذلك الاتفاق". الخارجية الأمريكية نفسها ذكرت على لسان نائب وزير الخارجية لشؤون الأمن الدولي ومنع انتشار الأسلحة، كريستوفر فورد، موقفاً لافتاً حيث قالت في بيان لها أن الولايات المتحدة لا تنوي مراجعة الاتفاق النووي أو الغائه، بل تسعى على ملحق إضافي، وأن بلاده لا تسعى لالغاء الاتفاق بل تسعى لإصلاح ثغراته.

الرئيس الفرنسي قال امام الكونجرس إن السياسة تجاه إيران يجب ألا تؤدي إلى حرب، وأن تضمن سيادة الدول بما فيها إيران نفسها، وقال نصاً "دعونا لا نرتكب حروب جديدة". وقال "إنه لا يمكن ترك الاتفاق دون وجود بديل يعالج جوهر الموضوع، لهذا لن ننسحب من الاتفاق"، وقد قررنا أن نعمل على اتفاق أكثر شمولاً يشمل أربع نقاط رئيسية هي الحفاظ على مضمون الاتفاق الحالي، وتغطية الفترة مابعد 2015 (أي مابعد نهاية أمد الاتفاق القائم)، واحتواء النفوذ العسكري للنظام الإيراني في الشرق الأوسط، ومراقبة برنامج الصواريخ الباليستي الإيراني".

بريطانيا عبرت عن وجهة نظر مماثلة لفرنسا مضيفة أن الاتفاق النووي كان ثمرة جهود تفاوضية استغرقت 13 عاماً، ولا يجب التضحية به من دون بديل كاف، وقال بوريس جونسون وزير الخارجية البريطاني إن الحفاظ على الاتفاق يبقي بديل أفضل من الغائه، وقال أمام اجتماع وزراء خارجية السبع الكبار "نتفق على أن سلوك إيران مدمر، ولكن علينا الحفاظ على الصفقة".

ربما تبدو ألمانيا أكثر الثلاثي الأوروبي تشدداً حيال الحفاظ على الاتفاق النووي، ولكن وجهات النظر بين الدول الثلاث متقاربة جداً، ويصعب القول بوجود تفاوت في وجهات النظر بينهم.

في ضوء هذا الاستعراض هناك تساؤل بديهي يطرح نفسه: ماهو مصير الاتفاق النووي؟ وفي الإجابة على ذلك علينا أن نعترف أن أسلوب الرئيس ترامب يجعل من الصعب التعرف على موقفه قبل يوم الثاني عشر من مايو الموعد النهائي لتحديد الموقف الأمريكي حيال الاتفاق، حيث تبدو التوقعات هنا بمنزلة مجازفة غير مأمونة العواقب، ولكن علينا أن نجتهد في فهم تكتيكات ترامب السياسية، حيث يبدو من الواضح أنه يستخدم سياسة حافة الهاوية ومعجب بها في عمله وإدارة الملفات المتأزمة، لذا فقد صعد للنهاية في ملفات عدة ثم ما لبث أن وجد المبرر أيضاً للتخلي عن كل مواقفه التصعيدية، من كوريا الشمالية التي انتقل فيها من التلويح بالزر النووي "الكبير" إلى قمة تاريخية مرتقبة، وملف سوريا التي انتقل فيها من التهديد بضربة قاصمة إلى ضربة محدودة للغاية كانت فيها الولايات المتحدة حريصة تماماً على تفادي الاصطدام بروسيا في الأجواء السورية، ولكن في انتقالاته وتحولاته يبدو ترامب مقتنع بأنه لم يتنازل ولم يقدم تنازلات ولا تراجع عن موقفه السابق، وهذا الأمر مرشح بقوة للتكرار في ملف إيران النووي، بمعنى أنه قد يأخذ بوجهة نظر الثلاثي الأوروبي، في ظل رفض الصين وروسيا لموقفه أيضاً، ويعمل على تصعيد الضغوط على إيران خلال الأيام القلائل المتبقية وبموازاة ذلك يعمل فريقه الرئاسي على إيجاد صيغة ملائمة بين ما يريده ترامب الانسحاب وما يسعى إليه الثلاثي الأوروبي (توسيع إطار الاتفاق أو مفاوضات حول ملحق إضافي للاتفاق) وسيعمل ترامب أيضاً على ترويج ما سيعلنه باعتباره ترجمة لما أعلنه بِشأن نسف الاتفاق النووي.