لن يستعجل الرئيس الأميركي دونالد ترمب الخيار العسكري نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية طالما لا تتخذ طهران اجراءات تصعيدية ضد المصالح الأميركية المتمثّلة في منطقة الخليج بمضيق هرمز للملاحة الدولية، الحُلفاء العرب كالسعودية والإمارات وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، واسرائيل في الشرق الأوسط. الخط الأحمر الأول هو، بالطبع، الجنود الأميركيين في المنطقة، سيما في العراق. دونالد ترمب لا يستسيغ التورط في حروب بعيدة لا تلقى ترحيب الشعب الأميركي، لكنه لن يتردد لحظة في الرد العسكري على ما يعتبره استفزازات إيرانية. الطابة العسكرية، عملياً، هي في الملعب الإيراني. واشنطن لن تكون البادِئة في ركل الطابة مهما زعم أولئك الذين يعادون كل من وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون ان الصقرين يخططان لحرب على إيران كتلك التي شنها الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش على العراق بذرائع ومعلومات استخبارية مفبركة. الطابة الديبلوماسية والسياسية هي أيضاً في الملعب الإيراني إذا اقتنع مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي وقيادات "الحرس الثوري" المتشدّدة بأن الوقت حان لإعادة النظر في منطق النظام القائم على تصدير الثورة الإيرانية الى الدول المجاورة وترسيخ نموذج الجيوش غير النظامية - مثل "الحرس الثوري" و"الحشد الشعبي" في العراق و"حزب الله" في لبنان - بولاء لمرشد الجمهورية الحاكم بإسم الله بصلاحيات قاطعة بموجب "ولاية الفقيه". فالسؤال الذي يجب أن يُطرَح هو: ماذا يريد النظام في طهران؟ ماذا ستقرر القيادات الإيرانية التي تَجمع الملالي والجيوش غير النظامية معاً ولا تشمل فعلياً القيادات المنتخبة التي لا تجرأ أساساً على تبنّي الاعتدال بجدّية؟ إذا قررت هذه القيادات ان المصلحة العليا تقتضي التمسّك بمنطق النظام قطعاً، لن يكون هناك حوار أميركي – إيراني ولا انحسار للعقوبات التي تخنق الاقتصاد الإيراني، بل سيزداد التوتر وسترتفع أسهم المواجهة إذا تبنّى حكام إيران الانتقام من عزم إدارة ترمب على اركاعهم، وسيدفع الثمن الشعب الإيراني بالدرجة الأولى. أما إذا استنتجت القيادات ان الأفضل لإيران وشعبها ولبقاء القيادات نفسها في السلطة أن تعدّل سلوكها في إصلاح جذري لمنطق النظام، سيكون ذلك عبارة عن صفحة جديدة في الخليج والشرق الأوسط وفي العلاقات الأميركية مع دول المنطقة.

المصادر الوثيقة الاطلاع على أجواء طهران أفادت ان القرار الإيراني تم اتخاذه على أعلى المستويات وخلاصته التهوّر الاستراتيجي، وليس استراتيجية التفاوض. خلاصة ما نقلته المصادر هو ان طهران قررت انها لن تقبل بأي حلول وسطى، ولن توافق على أية خطوة في اتجاه التراجع عن أهدافها الإقليمية التوسّعية، ولن تعيد النظر في صلب منطق النظام.

استراتيجية طهران، حسب هذه المصادر، هي ان تدفع بالوضع الراهن مع الولايات المتحدة الى "الخط الأحمر"، أي انها عمداً ستستدرج الولايات المتحدة الى العمل العسكري ضدها رداً على إجراءات إيرانية اقليمية بما فيها ضد مصافي النفط السعودية. القيادة في طهران تريد، حسب المصادر نفسها، "أزمة كاريبية" لأميركا، اشارة الى أزمة كوبا. وهي تعتقد ان العالم سيستنفر ضد الولايات المتحدة نتيجة افرازات المواجهة العسكرية الأميركية – الإيرانية سيما لجهة أسعار النفط وأبعاد الحرب الأميركية – الإيرانية عالمياً.

الوضع الاقتصادي الذي وصلت اليها إيران بسبب الخناق الاقتصادي الأميركي لها وتطويق صادراتها النفطية أدى بالقيادة الإيرانية على مستوى مرشد الجمهورية الى تبنّي استراتيجية التصلّب ورفض المرونة رفضاً قاطعاً. المنطق وراء هذه الاستراتيجية هو ان العمل العسكري الأميركي ضد ايران ستكون له ردود أفعال في الداخل الإيراني لصالح النظام. هذا المنطق ينطلق من استراتيجية الانقلاب على الاستياء أولاً واحتواء احتمالات التمرد ضد النظام ثانياً.

رهان القيادة الإيرانية الإقليمي هو ان دفع الأمور الى "الخط الأحمر" يعني دفع المنطقة الى شفير الكارثة إذا قررت واشنطن عبور الخط الأحمر. يعني أيضاً، من وجهة نظر القيادة الإيرانية، ان العالم سيستنّفر ضد الولايات المتحدة هلعاً من التطوّرات. بسيكولوجياً، يعني ذلك ان الدول المهمة مثل روسيا والصين والدول الأوروبية ستضغط على الولايات المتحدة للتوقف عن كامل سياستها نحو إيران – العسكرية منها والاقتصادية والسياسية. وهكذا "تنتصر" الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ما نقلته المصادر عن طهران هو ان القيادة لا تريد تعديل أو اصلاح النظام ولن ترضخ لأي شرط في هذا الاتجاه. جزمت هذه المصادر ان القيادة الإيرانية مستعدّة لإشعال المنطقة برُمتها قبل أن توافق على أية تعديلات على منطق النظام. انها مسألة وجودية للنظام. والقيادة جاهزة لتفجير المنطقة حتى إذا أدى ذلك الى زوالها. قرارها هو: عليَّ وعلى أعدائي.

لفتت المصادر الى تفكير القيادة الإيرانية الجدّي بالانسحاب من الاتفاقية النووية وربما من كامل اتفاقية حظر أسلحة الدمار الشامل في اطار استدعاء الحرب، الى جانب اجراءات مباشرة ضد الدول الخليجية ومصالحها النفطية. قالت ان "حزب الله" في حال تأهب باستعدادات اشعال الجبهة اللبنانية ضد اسرائيل حالما تبدأ العمليات العسكرية الأميركية، وأنه في جهوزية لإجراءات عسكرية استباقية في أكثر من جبهة عربية. قالت ان النزاع المسلّح دخل مرحلة العد العسكري في طهران، وتوقعت اندلاعه في غضون أيام. قالت ان الحرب ستكون اقليمية وليس ثنائية.

رهان طهران هو أن هلع روسيا والصين وأوروبا سيقودها الى ممارسة ضغوطها على واشنطن وسيؤدي، في اعتقاده، الى تراجع ادارة ترمب. انها لعبة في غاية الخطورة. انها مغامرة التهوّر الاستراتيجي المنبثق من حسابات الإفلاس.

فالصين لن تختار الاصطفاف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الولايات المتحدة سيما وانها في خضمّ المفاوضات الاقتصادية معها وفي صدد صياغة علاقات استراتيجية بعيدة المدى. أوروبا ستتشرذم شفوياً لكنها لن تدعم إيران عملياً ولا في وسعها الضغط على الولايات المتحدة. روسيا أيضاً لن تهرول الى انقاذ الجمهورية الإسلامية عندما يتوضّح ان طهران اعتمدت استراتيجية الحرب كخيارها الوحيد للخروج من المأزق والخناق لأنها ترفض قطعاً أي خيار آخر للتأقلم أو لإصلاح النظام. ثم ان موسكو لن تتمكن من دعم إيران إذا ما انسحبت من الاتفاقية النووية أو اتفاقية منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبالتالي، من الصعب على موسكو دعم إيران علناً في حرب تدخلها عمداً مع الولايات المتحدة، حسب المصادر الروسية.

ستكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمفردها اذن. لكن حكّام طهران يعتقدون ان لا مناص من الوضع الراهن سوى استدراج واشنطن الى عبور الخط الأحمر. وبحسب المصادر، لقد تم اتخاذ القرار ولا عودة عنه.

استراتيجية الرئيس الأميركي لم تتخذ الإجراءات العسكرية ركناً لها وانما تبنّت الخناق الاقتصادي وتطويق الصادرات النفطية ركنها الأساسي. طهران تعتقد ان جرّ دونالد ترمب الى الحرب واجباره على اتخاذ اجراءات عسكرية يقع في مصلحتها. فأما يختار الانزلاق الى المواجهة العسكرية التي لم تكن في حساباته. أو يختار التراجع عن شروطه ويدخل في مفاوضات بعد الاعتذار.

ترمب تحدّث مجدداً عن تطلعه الى التفاوض مع الإيرانيين اقتناعاً منه ان الضغوط الاقتصادية ستؤدي بقادة طهران للجلوس الى طاولة المفاوضات وإبرام الصفقة الكبرى. هذا رئيس يؤمن بجدوى الضغوط كقناة أساسية نحو المفاوضات والتوصل الى الصفقة. برز في الماضي كلام عن امكانية استغناء واشنطن عن الشق المتعلق بوقف إيران التوسّع الإقليمي من مطالبها مقابل تلبية طهران الشق المتعلق بإصلاح الاتفاق النووي والصواريخ الباليستية. هكذا يحقق دونالد ترمب انجازاً تاريخياً ولن تزعجه عندئذ تهمة خيانة الوعود والاستغناء عن الأصدقاء.

هناك كلام عام عن دخول سلطنة عُمان مجدداً حلبة تسهيل المفاوضات السرّية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية لاحتواء الانزلاق الى مواجهة عسكرية. احياء عُمان القناة السرّية لإجراء مفاوضات بين عسكريين أميركيين وإيرانيين يجب ألا يكون، هذه المرة، مفاجأة لشركاء عُمان الاستراتيجيين في مجلس التعاون الخليجي، بالذات السعودية والإمارات مهما كانت المبررات.

هذا يتطلب من السعودية والإمارات والكويت والبحرين التوجّه الى عُمان لاقناع السلطنة بأن القناة السرّية الأميركية – الإيرانية تطعن في ظهر الدول الخليجية مهما كانت النوايا العُمانية حسنة، ولإبلاغ عُمان ان الاحتجاج ليس ضد استخدام نواياها الحسنة لاحتواء اندلاع الحروب وانما هو ضد تسهيل مفاوضات ثنائية حول مصير المنطقة باستبعاد للدول العربية عن الصفقة الأميركية – الإيرانية.

تلك الصفقة هي ما تسعى وراءه القيادة الإيرانية في فترة ما بعد المواجهة العسكرية، أو عشية اندلاعها. ففي رأي القيادة الإيرانية، لا مجال لبقاء النظام واستمرار منطق تصدير الثورة ونموذج الحكم الثيوقراطي الديني والجيش غير النظامي الى الدول العربية وغيرها سوى بدفع الأمور الى شفير الهاوية.

إدارة ترمب تأهّبت وأرسلت حاملات الطائرات بما فيها من طراز B-52 التي لم يسبق ارسالها الى الشرق الأوسط. بومبيو وبولتون ليسا وحدهما بين الذين تحدّثوا بحزم وانذرا إيران وانما أيضاً قائد القوات المركزية الأميركية US Central command الجنرال كينيث ماكنزي الذي تحدث عن تهديدات ايرانية تستحق كل الاستعدادات.

ملامح القرار الاستراتيجي الإيراني التي نقلتها المصادر المطّلعة تنذر بالأسوأ: لا مرونة على الإطلاق واندفاع نحو توريط الولايات المتحدة عسكرياً كمخرج وحيد من الورطة الإيرانية. ماذا ستكون ردود الفعل الأميركية وقرار إدارة ترمب الاستراتيجي ازاء الاستدراج الإيراني العسكري الى المواجهة العسكرية؟ العالم بِرُمته يترقّب، ومنطقة الشرق الأوسط ترتعد خوفاً من استراتيجية التهوّر الإيرانية.