ها نحن أمام رحيل مناضل ثوري آخر من الطراز الرفيع، عبد الرزاق الصافي (أبو مخلص). رجل أتصف بعمق ثقافته ومرونته السياسية وعلوّ أخلاقه وصلاته الاجتماعية. كان لا يضع الخلافات السياسية القديمة على الطاولة في علاقاته الشخصية وهو أيضا ما كان يتصف به المناضل الراحل عزيز محمد السكرتير العام الأسبق للحزب الشيوعي العراقي. وعراق اليوم في أمس الحاجة إلى رجال من هذا النمط الرفيع في وقت صعد فيه الفاشلون و الفاسدون إلى أعلى بسبب الطائفية.

لا أتذكر بالضبط متى كان لي أول لقاء مع الصافي خلال وجودي في الحركة الشيوعية العراقية طوال ربع قرن. ولكن كانت بيننا علاقات صداقه عشية الحرب على النظام السابق وتجددت في أعوام 2000 و 2002 خلال زياراتي إلى لندن. وقد زرته مرة في شقته وخرجنا للغذاء لدى صديق مشترك، لدى طبيب الأسنان الدكتور نجم الدين غلام. وهذه العلاقة الصافية من العقد الماضية كانت تغيظ بعض الجامدين المسجونين في ماضٍ ذهب. وحين صدر لي كتاب في السيرة السياسية انبرى احد هؤلاء إلى نشر مقال له يلوم الصافي لعلاقات ألصداقة بيننا.

إن رحيل أبي مخلص يثير لدي سلسلة من التداعيات والذكريات السياسية، مثل ما جرى لي مع رحيل آخرين من الرعيل النضالي اليساري ومنهم عزيز محمد و كاظم فرهود مؤخراً.

لقد انضممت للحزب الشيوعي العراقي عام 1946 لأعتزل بعد ربع قرن في ظروف قاهرة وعصيبة ولكن أبقى يساريا مستقلا. ولم أنسَ الماضي الشيوعي حتى أنني خلال العقد الأخير وقبله نشرت أكثر من مقال في ذكرى ميلاد الحزب الشيوعي، و مجدت نضالاته الكبرى وتضحياته الجسيمة من اجل الديمقراطية و الوحدة الوطنية وحقوق الإنسان، ولاسيما حقوق المرأة والقوميات والأقليات. ولم أكن أغض النظر عن الأخطاءوالمنزلقات والانقسامات، كما يحدث لكل حركه سياسية أخرى. ولكن ما من حركة سياسية عراقية قدمت من الشهداء من اجل الوطن والشعب كالحركة الشيوعية العراقية، وهي أيضاً من قدمت نماذج رائعة من الوطنيين الذين كانوا يتحملون القمع الوحشي و الحرمان من اجل مبادئ الوطنية، التي امنوا بها،وقد انخرطوا في النضال لا من اجل مال أو مراكز بل في سبيل الوطن والشعب. وقد كتبت مرارا إن الشيوعية جاءت لخدمه البشرية وهي غير مسؤولة عن أخطاء من يؤمنون بها ويخططون ويحولون المبدأ إلى عقيدة صنميه محنّطة. وقد دخلت الحركة الشيوعية و أنا من عائله مرفهة، عائله كانت تعطف على الفقراء والضعفاء وتساعد من تستطيع منهم. وآمنتبالشيوعية عن قناعه فكرية. ولست نادما على ذلك الماضي سوى على أخطاء فادحة وسوى الوجع لما لحق بالعائلة كلها من ملاحقات ومتاعب معيشية بسبب نشاطي السياسي. و كان لي شرف التعرف على المئات من المناضلين الأوفياء للشعب والوطن وهو ما أعتز به ومن هؤلاء رفيقنا الراحل أبو مخلص.أني أتوجه بأحر التعازي إلى عائله الفقيد ورفاقه واردد من القلب (وداعا يا صديقي، وداعا أيها المناضل المتميز. و سلاماً،سلاماً لذكراك.......).