أستمتعت كثيرا هذه الأيام بقراءة المختارات الشعرية للشاعر الامريكي وليم كارلوس وليامز، والتي نقلها الى اللغة العربية الشاعر العراقي المقيم في باريس، عبد القادر الجنابي. و يمكن آعتبار هذا العمل الصادر عن "دار التنوير"، &هدية ثمينة للمكتبة الشعرية العربية إذ أن هذا الشاعرالفذ شبه مجهول لدى اغلب الشعراء العرب خلافا لمعاصره ت. س. اليوت على سبيل المثال لا الحصر. كما أن رؤيته الشعرية كانت ولاتزال، &ناصعة، ونابضة بالحياة، و و ومحتفظة بفرادتها على مستويات عدة.&

والخاصية الأساسية التي تميز بها وليم كارلوس وليامز هي انه كان أول من خلّص الشعر الأمريكي من تأثيرات الشعر الأروربي التي كانت سائدة ومهيمنة في زمنه. فقد كان على الشعراء الامريكيين، أبناء العائلات المهذبة والمحافظة، أن يسافروا الى لندن، أو الى باريس قبل ان يشرعوا في كتابة أشعارهم. ومعنى هذا انهم كانوا يقبلون التخلي عن "روحهم الامريكية مقابل الإعلان عن ثورتهم الشعرية"كما يقول الكاتب والشاعر الألماني هانس ماغنوس انسنسبرغر. والشعراء الذي حاولوا الحفاظ على هذه الروح، معتمدين في ذلك على الإرث العظيم الذي خلفه لهم والت ويتمن، &مثل كارل ساندبورغ، وادغار لي ماستارس، وفاشال ليندساي، لم يتمكنوا من آختراق الهيمنة الصلبة للشعر الأوروبي . أما وليم كارلوس وليامز فد فعل ذلك مبرزا موهبة عالية، وقدرة فائقة على أن يكون ما كان يحب أن يكون. أي الشاعر الذي يرفض الإنسياق إلى أي تيار غير ذاك الذي نحته من خلال تجربته الخاصة، ومعركته الهادئة مع الكلمات بعيدا عن صخب المدراس والصالونات. وقد قرأ وليم كارلوس وليامز"أوراق العشب"لوالت ويتمن في سنوات شبابه، وتحديدا عندما كان يدرس الطب في جامعة"بنسيلفانيا". ومن المؤكدأنه أعجب به. غير أنه لم يقبل أن يكون صدى له. وفي هذه الفترة من حياته أيضا، تعرف على عزرا باوند وأصبح صديقا له. وكان هذا الأخير يلومه أحيانا قائلا له بإنه يفتقر الى القراءات المعمقة، والى ثقافة واسعة. ويرى هانس ماغنوس انسنسبرغر أن هذا اللوم لم يكن في محله. فقد كان وليم كارلوس وليامز بحسب رأيه قارئا جيّدا، وكان مطلعا على أعمال الشعراء القدامى، وحتى على الشعر الصيني الذي كان عزرا باوند مغرما به، إلاّ انه لم يكن يرغب في ابراز قراءاته، والتبجح بها امام الآخرين . وكان يفضّل أن يتحدث عن بسطاء الناس، وعن المزارعين، وعن الزنوج، عوض ان يستعرض معلوماته وآراءه الشخصية عن االشعراء اليونانيين، أو الصينيين، أو غيرهم. وفي سيرته الذاتية التي كتبها عند بلوغه سنّ السبعين، ذكر أنه يمقت تلك الهيئة الاستراضية التي يلجأ اليها الكتاب والشعراء عندما يكونون في حضرة الجمهور. فقد كان تكوينه العلمي يدفعه بالأحرى الى التواضع، والحذر، والرغبة في التخفي. لذا كانت كتابة الشعر عنده لا تختلف عن اجراء عملية توليد طفل قاطعا بذلك مع المفهوم الرومانسي الذي يعتبر كتابة الشعر عملا مختلفا عن بقية الاعمال الاخرى، وله طقوس خاصة به وحده . حتى أثناء عمله كطبيب، لم يكن وليم كارلوس وليامز ينقطع عن كتابة الشعر. فبين زيارة هذا المريض أو ذاك، كان يهرع الى الآلة الكتابة في عيادته ليكتب أبياتا من القصيدة التي تختمر في ذهنه. وأحيانا تجبره ظروف العمل، على أن يكتب بيتا او نصف بيت ثم يعود لينشغل بصحة مرضاه. وهو يقول:”أحيانا يسألني الناس كيف أتصرف لكي اقوم بعملين في نفس الوقت. وهم لا يعلمون أن كل عمل مكمل للآخر، وأن كل واحد منهما يمثل جانبا من الشيء ذاته". غير ان هذا لا يعني أن وليم كارلوس وليامز لم يكن قاسيا مع نفسه في كتابة الشعر تماما مثلما هو حاله مع الآخرين. فعندما كان في باريس عام 1924، آلتقى بجرتريد شتاين التي كان الكتاب الأمريكيون الجدد يترددون عليها للإستماع الى نصائحها "الثمينة" في مجال الكتابة النثرية أو الشعرية. وهذا ما فعله ارنست همنغواي مثلا. وبعد أن أطلعته على المخطوطات المتراكمة في شقتها في آنتظار نشرها، سألته:”ماذا كنت تفعل في مكاني بكل هذه المخطوطات؟وكيف ستتصرف لو كتبت كثيرا؟"، فرد عليها بهدوء قائلا:”لو أنني كتبت كثيرا لخيرت في النهاية أن انشر ما انا أعتقد انه الأفضل، ورميت بالباقي للنار!”. وقد صعقت جرتريد شتاين عند سماعها هذا الكلام وبغضب ردت عليه قائلة: ”أنا أفهم. ذلك ان الكتابة ليست مهنتك!”.&

ورغم أنه كان يفضل العيش والكتابة في العزلة والصمت، فإن وليم كارلوس وليامز تعرف على الكثير من الفنانين والشعراء الكبار من امثال ماياكوفسكي، واراغون، وبليز ساندراس، وويليام بتلر ييتس، وخوان غريس، وفارنان ليجي، وسكوت فيتجيرالد. وآخرين كثيرين . وكان يكن اعجابا شديدا لمارسيل دوشامب، وخصوصا للوحته "عارية تنزل السلم". ومع ذلك كان عليه ان يمضي سنوات طويلة في الكتابة قبل ان يفرض نفسه في المشهد الشعري الأمريكي والعالمي. وكانت البداية عسيرة للغاية. ففي عام 1921، أصدر دويانه الاول الذي حمل عنوان:”الحًصرُم". وقد أثار العنوان دهشة وآستغراب المختصين في علم النفس فراحوا يسألونه:”لماذا آخترت هذا العنوان؟هل تشعر بالكبت؟هل أنت تحس بالخيبة؟هل أنت ساخط على شيء ما؟". وقبل أن يسمعوا منه ردا على تساؤلاتهم، كانوايشرعون في آستعراض بعض الأسباب المثيرة لمثل هذه الحالات النفسية. فيقولون مثلا أن العنوان الغريب الذي آختاره لديوانه قد يعكس حياته الرتيبة في مدينة صغيرة، مدينة روذرفورد في نيو جيرسي . . ها ها ها . . . أنت شاعر . . . ها ها ها . . . حصرُم . . هذا كل شيء …وقد رد وليام كارلوس وليامز على هذا قائلا:”بالنسبة لعنوان ديواني، كنت فقط أرغب في أن أقول بأن النظرة المجردة لا تفرق بين الحصرم والعنب الناضج . . . ها ها ها. . |”

وقد يكون هذا الجواب المفتاح لفهم الرؤية الشعرية التي تميز بها وليم كارلوس وليامز. وهي رؤية"موضوعية"، و"براغماتية" تقوم على النظر الى الأشياء البسيطة والعادية كما هي. لذاكان هو ينفر من الزوائد، ومن الأساطير، ومن الإيد يولوجيات، ومن القضايا الكبيرة، ومن الأحداث التي تحدث رجات عنيفة في العقول وفي النفوس. والقصيدة عنده"آلة صغيرة (أو كبيرة) مصنوعة من الكلمات. وعندما اقول ليس شيء عاطفي إزاء القصيدة أعني أنه لا يمكن ان يكون فيها جزء، كما في أيّ آلة اخرى، زائد عن الحاجة. وحركتها ظاهرة ذات طبيعة فيزيائية بالأحرى وليست أدبية ". ولتوضيح رؤيته الشعري، روي وليم كارلوس وليامز أن صديقا له يدعى بوب رافق همنغواي الى اسبانيا خلال الحرب الاهلية. وفي محطة قرية صغيرة، توقف القطار فنزل المسافرون ليستنشقوا الهواء. قرب السكة الحديدية، &جثة كلب. وكانت قد تعفنت وآنتفخت وعليها ظهرت ألوان تشبة ألوان قوس قزح. وفي حين عجل بوب بالإبتعاد لتجنب الرائحة الكريهة المنبعثة من جثة الكالب، آختار همنغواي ان يخرج من جيبه دفتره الخاص ليكتب نصا يحتوي على وصف دقيق للمشهد الذي كان أمامه. وقد علق وليم كارلوس وليامز على ذلك قائلا بأن ما فعله همنغواي كان مهما. لذلك هودأب على مدى مسيرته الشعرية على أن يولي الأشياء المهملة والمنسية والمتروكة عناية كبيرة . فهي بالنسبة له جوهر الشعر . وعلى الشعر أن"يتغذى من ناره الداخلية"، ومن "الحيوية"، ولا حاجة ل"الشرح والمقارنة". والقصيدة ليست"سردا لمآثر وبطولات". فثمة أشجار وحيوانات وأمكنة ولا شيء آخر. ويضيف وليم كارلوس وليامز قائلا:”لن تكون هناك قيمة للقصيدة إلا أن تتخلص من الرمزية الفجة، وإزالة التداعي المتكلف، والأشكال الطقوسية المعقدة، المصممة لفصل العمل عن "الواقع"-كالقافية، البحر كبحر، وليس كجوهر العمل، كلمة من كلماته". وربمايكون هانس ماغنوس انسنسبرغر على حق عندما لاحظ ان رؤية وليام كارلوس وليامز تتغذى من بيئة مدينة رذرفورد في نيو جرسي التي فيها ولد عام 1883 . وخلال طفولته ومواهقته خالية تماما من المظاهر الحضارية. فلم يكن فيها لا كهرباء، ولا ماء صالحا للشراب. وكانت شوارعها غير المعبدة مليئة بالحفر. وكانت البيوت تضاء بمصابيح الكيروزين. وعندما آجتاحت هذه المدينة التي تبعد بضعة اميال عن نيويورك، الحضارة الحديثة، ظل وليم كارلوس وليامز دائم الحنين الى ماضيها البسيط حيث كانت الحياة خالية من التصنع، والبهرج الكاذب، وأضواء الشركات الكبيرة. لذلك تأتي القصائد التي تصف حاضرها محملة بالم الشاعر واوجاعه وهو يتأمل موت الطبيعة، &وذبول الأشجار، وآنسداد الافق بسبب آرتفاع المباني، والسماء الملطخة بالهواء الفاسد. وتتجسد رؤية وليم كارلوس وليامز المفعة بالتشاؤم تجاه كوارث الحضارة الحديثة والتقدم التكنولوجي والصناعي من خلال العمل الأساسي له الذي حمل عنوان:”باترسون". وباترسون مكان حقيقي . وهي مدينة صناعية تقع على ضفاف نهر "باساياك"، غرب نيو جرسي. وفي هذا العمل الشعري الذي اراده ان يكون مثل "كانتوس" عزرا باوند، و"النشيد الشامل" لبابلو نيرودا، يروي وليم كارلوس وليامز قصة النهر المذكور آنطلاقا من منبعه وحتى مصبه مرورا بالشلالات الكبيرة محولا اياه الى "شخصية حية". ومرة أخرى هو يتمسك بجذوره محاولا من خلال ذلك الحوار مع العالم، ومع التاريخ، ومع الحضارة:”مدينة نيويورك خارج أفقي. لم أرغب في أن اكتفي بالطيور وبالازهار. كنت أريد أن أكتب عن الناس القريبين مني، وعن اولئك الذين أعرف عهم كل شيء بما في ذلك أقلّ التفاصيل اهمية. فأنا أعرف عيونهم عن قرب، وحتى روائحهم. هنا يكمن واجب الشاعر. :عليه ألا يتناول مواضيع عامة وفضفاضة، بل عليه ان يكتب حول ما هو خاص، وما هو فرديّ، مثل الطبيب أمام مريض يحاول ان يعالج الحالة التي يعاني منها". ومعلقا على"باترسون"، كتب الناقد روبرت لوفال يقول:”أمامنا أمريكا كما عند والت ويتمن، غير أنها باتت مسرحا للبؤس والمأساة، مشوهة بعدم المساواة، ومخربة بسبب الفوضى الصناعية، ومعرضة للتفتت والانهيار . ليس هناك كاتب رسمها بهذه القدرة الفنية العالية، وبلطافة، وبتجربة وبقوة، وبتيقظ مثلما فعل وليم كارلوس وليامز"
&