للنفع حقيقته المتقررة، والمتمثلة فيما يُتوصَّلُ به إلى خيرٍ يتعلق بالمعاد أو بالمعاش، والنفع المتعلق بالمعاش منه ما يُتوصَّلُ به إلى مآربَ ماديّةٍ قد يتضرر الإنسان بعدم وصولها إليه، ومنه ما يُوصِلُ إلى مآربَ معنويةٍ، لا ضرر في تخلُّفها، لكنها تنفع من سيقت إليه إذْ تشعره بأهميته وإعزازه، وتُنصفُهُ بتنزيله المنزلةَ اللائقة به، وجميع أصناف المنافع مشتركة في أن العبرة فيها بما أفضى إلى الخير بالفعل، ولا اعتبار فيها لما ليس كذلك وإن ظنَّهُ الساعي فيه نافعاً، فعلى من تصدى لينفع الآخرين أن يتحرى خطواته بعناية، وأن يتصرف برويةٍ، وعلى حسب ما تهدي إليه البصيرة، لا كما تُملي عليه العاطفة؛ ليتأكد من أنه لا يُهدرُ جهده فيما لا جدوى فيه، ولا يَشغلُ الآخرين بما لا منفعة لهم فيه، أو بالأحرى: لا يضرهم وهو يُوهمُهُم - من حيث يدري أو لا يدري - أنه ينفعهم، فالنفع إن كان صوريّاً مجرداً ولم يأت على حقيقته انقلب مضرةً بالغةَ الخطورة يجب تجنيب الناس تبعاتِها، ولي مع النفع الصوري وقفات:

الأولى: أكثر أصناف النفع احتياجاً إلى الدقة ما له علاقة بأمور الدين، فمن قصد نفع نفسه أو نفع الآخرين في أمور المعاد، فليست له الحرية فيما يتعاطى من ذلك، فما ينفع الناس في معادهم لا يتحدد إلا بتوقيفٍ من الشرع، ومن تقرب إلى الله بشيءٍ لم يشرعه لم يزدد إلا بعداً منه، ومن حَمَلَ الناس على التعبُّد بما لم يشرعه الله، فقد سعى في إضلالهم، وسعيه مردودٌ عليه، فيلزم كلَّ من يهتمُّ بنفع الناس في دينهم أن لا يُقدمَ على شيءٍ من ذلك إلا بمعرفةٍ نابعةٍ من علمٍ حقَّقه من الكتاب والسنة بفهم أئمة المسلمين والعلماء الراسخين، أو إرشادٍ تلقاه من عالمٍ موثوقٍ، ودعت الحاجة إلى أن يوصله إلى غيره، وكان مما يسعُ آحادَ عامة المسلمين أن يُفيدَ فيه بعضهم بعضاً من جزئيات العلم وضروريات الدين، أما القضايا العامة والنوازل المشكلة ونحوها، فليس لغير العلماء الراسخين أن يخوض فيها، ولو اقتحمها متوهماً احتسابَ نفع الناس في دينهم ودنياهم لخلط الحابل بالنابل، وخبط خبْطَ عشواء، وصار منخرطاً في الإضرار العامِّ، ولم يكن له في ذلك عذرٌ، وإن انطلق من نية النفع؛ لأن أحسن أحواله أن يكون سطحي الفكر ساذج النظر، يظنُّ أن أهلية النظر في القضايا العامة التي يَتوصل إليها غيره بالتعمق في العلم وثقوب النظر وطول مصاحبة العلماء يمكنه أن يتوصل إليها بمجرد حماسته لما ظنه نافعاً، ونيته التي يَعتدُّ بها، وما انزلق أهل الأهواء والفرق إلا بسبب هذا الوهم الكبير.

الثانية: محاولة النفع الدنيوي لها مراتبُ كثيرةٌ، فمنها ما يبذله العاقل لمن يحتاج إليه بالفعل على الوجه الملبِي لحاجته، وهذا يبذله الباذل وهو يُدركُ أنه وضعه في موضعه اللائق به، كتقديم العون المعرفي أو غيره إلى من يحتاج إليه لقصورٍ في مداركه أو قدراته، وحماية من لا يُفرِّقُ بين الضرر والمنفعة من الوقوع فيما يضره، والساعي في هذا مشكورٌ مأجورٌ إن شاء الله، ومنها ما لا يُوفَّقُ باذله في أسلوب تقديمه، فيأتي به على وجه قد يُفرِغُهُ من مضمونه، أو يُفضي إلى ضررٍ أرجح منه، أو يُوقعُ في حرجٍ هو في غنى عن تعريض أخيه له، والغالب وقوع هذا الصنف ممن لا يُقدِّرُ أن الناس أعرف بما يصلح لهم، وأن المرء أبصر بمرغوباته، فيقتحم خصوصيات الناس في أحوالهم وعاداتهم، وهذا كإصرار بعض الناس على الضيف أو الزائر بتناول أكلةٍ معينةٍ، أو شربةٍ، أو الإصرار عليه بالجلوس في مكانٍ معينٍ، والغرض من هذا الإصرار الإكرام، ولكن قد ينقلب إلى إضرار؛ لكون الضيف لا يأكل هذا النوع من الأكل لأيِّ اعتبارٍ، أو لا يشرب ذلك الشراب، وقد لا يرغب في أن يجلس في هذا المكان لأيِّ اعتبارٍ كأن يكون مقابل المكيف ونحو ذلك، فيتحمل من ذلك عنتاً.

الثالثة: من أنواع النفع الصوريِّ الشائعة تقديم المضرة على أنها منفعةٌ، ودسُّ سمِّ المضار في عسلِ المنافعِ، وهذا مما يجب على الإنسان أن ينتبه له في تعاملاته، وفي قناعاته ومبادئه؛ فإن سهولة الوصول إلى الأفكار في هذا العصر يفرض على المسلم الحذرَ الشديد، فمن عادة المبطلين وأصحاب الأهواء ومروجي الفتن أن يُروجوا ما عندهم من الضرر بإلباسه لباساً مزيفاً من المنافع، فيُخيَّلُ لمن لم يُمعن النظر أنهم سعاةٌ في النفع، والواقع أنهم سعاةٌ في الضرر، وأن ما تنطوي عليه أهدافهم من الخبث لم يكن أحدٌ ليقبله لو لم يقدموه على صورةِ نفعٍ زائفةٍ.