يا له من شهر فضيل، شهر الصدقة والإحسان والصدق والرفق، وتهذيب النفوس، والعطايا والهبات، والجود والسخاء، والبر والصلة، حيث تصوم اليد عن المعاصي؛ فلا تبطش، ولا تسرق، ولا تضرب، ويصوم اللسان عن الكذب والنفاق والنميمة والغيبة والقيل والقال.

شهر تصفية النفوس من شوائب الأحقاد، وتنشيط الدورة الدموية؛ من أجل القضاء على أكسدة الدم الفاسد في نفوسنا، ونقل الأوكسجين النقي إلى عقولنا. هو فرصة لعلاج تصلب شرايين الشر الذي يتراكم في جدران حياتنا؛ ليمنع تدفق الخير في أوعية السلوك.

رمضان جاء؛ ولكنَّ في داخلي حزنًا ووجعًا، وأنا أرى رمضان آخر، وقلوبًا أخرى، وقساوة مبتكرة بالألوان الحادة، والطقوس المخادعة، والأفعال الناصبة للخير. فهو ليس أيام الأبيض والأسود، وطقوسه البسيطة، وفطرة العبادة والتعبُّد التي تسكن في البيوت سرًّا، وألفة الناس وتضامنهم التي تشتعل وهجاً في البيوت والأحياء الشعبية، وإتيكيت الفطور والسحور، والروحانيات الجميلة، ومهابة الأب والأم ورعايتهما للأبناء، ودعواتهما في الفطور؛ "ذهب الظمأُ، وابتلَّتِ العروق، وثبت الأجر إن شاء الله".

سأقول من الآخر، لست واعظًا دينيًّا، ولن أُكفّر أحدًا، سواء أكان صائمًا أم مفطرًا، لكنني أقول: إن رمضان اليوم أصبح عادة اجتماعية بلا محتوىً إيماني وتعبُّديّ؛ ذهب عنه المعنى الرمزي لوجوده بيننا. صرنا عبئًا عليه؛ بالأفعال المجرورة، وبالفتن، والبغضاء، والتنابز بالألقاب المبتذَلة.

دنيا تسير بالمقلوب، تجد قسوة القلوب الفاقدة للرحمة، والجحود والأنانية وموت الضمير؛ صرنا نرى أهل غزة، وكأنهم من كوكبٍ آخر، فلا صور الأطفال تهز أفئدتنا ومشاعرنا المجمدة، ولا بكاء النساء يستجلب عطف الضمير، ولا أخوَّة الدم تستنهض قيم الرجولة و(الشنبات) العربية. صارت القضية فطورًا علنيًّا قبيح المنظر، ومشمئزة في متواليات الواقع الذي يفطر القلب.

تناشزٌ اجتماعي غريب، يتضخم في شهر الفضائل، يفوق الأشهر بأرقامه القياسية في مباهاة الصوم والعبادة والطعام، وثرثرة النفاق في بيوت الله والثقافة والعلم والقبائل والطوائف. صارت مساجدنا وطقوسنا مكانًا لإثارة الكراهية بين الناس، وفتنة اجتماعية لتهييج التخلف. رأيت مشاهد متناقضة: صائمون لا تشعر برمضان في وجوههم ينافقون ويسرقون ويتباهون بالصيام والقيام وهم في بيوت الله، ، ومفطرون تحسبهم صائمين لكثرة ما ترى في أعمالهم من خيرٍ وتسامحٍ ومحبةً. أنه رمضان المعنى والسلوك.

شاهدت في رمضان بعض الناس يجتمعون على موائد الصيام بالمال الحرام، ينحرون الذبائح من سرقات القرن وفتاوي النهب، ومعاش الفقراء والمتقاعدين؛ كل ذلك - وياللعجب - باسم الأنبياء والأئمة الأطهار، يُحلون الحرام ويُحرمون الحلال! وهناك الظالم يزيد من ظلمه، والغشاش يزيد من غشه، وآكل الربا يزداد له أكلاً، والسفيه يزداد سفهاً، والغني يزداد بُخلاً.

نرى في رمضان "ماراثوناً" لملء البطون، والنهم الاستهلاكي، والكسل والنوم. ونسقط ما تعلمناه من الأسرة والمدرسة بأن (رمضان تدريب على ملاقاة الظروف القاسية، والإحساس بمشاعر الآخرين، ومعاناة ما يُعانيه الفقراء من عضة الجوع، وحرقة العطش، ورداءة المسكن).

إقرأ أيضاً: الحنين إلى خرافة الجن والعفاريت

وفي ليالي رمضان، تزداد التسالي بين شاشات التلفاز والمحمول لمشاهدة البرامج التي تثير الأحقاد والعنف والفتن والكراهية، أو مشاهدة مسلسلات تمتلئ بالدعارة والفسق والشذوذ والمخدرات والتفاهات. مثلما يصبح السحور في خيم ومقاهي الدخان والشيشة علامة فارقة.

وبينما يزدهر بلد "الكفر" بعطايا الخير في كل أيام السنة بالمشروعات الخيرية، وتتوالى بكثرة لديهم قصص العطاء والسخاء ولين القلوب، وتمتلئ بطون الحياة والكتب بقصص مآثرهم الإنسانية الراقية ؛ فأنك لا تسمع في أوطاننا سوى طنين فضائح قرون سرقة المليارات، ورائحة الفساد العفنة، وجشع تجار رمضان والأزمات، ولصوص السياسة الذين يسرقون رزق العباد، وخزائن العراق وثرواته. لا ترى فيهم خيراً إلا في جمال ديكور "كروشهم" المتدلية، ودخان فضائحهم في ملاهي الرقص والعري وصالات القمار.

مفارقات لا تنتهي، فانت تعيش في مجتمع علامته الفارقة وهج الحلال والحرام، والتقوى والزهد، وممارسة الشعائر والمظاهر الدينية، لكنه مجتمع الولاء المزدوج، والسلوك المتناشز الذي يعمل تحت سيطرة المظاهر، أو تحت ستار الفتاوي والتفسيرات الدينية الخادعة؛ يكسب ماله من حرام ثم يذهب به للحج، ويقسم ذاته إلى تقوى وفسق، والى صاحب فتوى وملهى، ويمارس الدين حسب المزاج والحاجة وعند الإلزام.

إقرأ أيضاً: تفاهات الرَّقمنة

أوطان تكثر فيها المساجد ولا تجد فيها المشاريع الخيرية -إلا ما ندر-. ستجد نفسك بين منافق يثرثر كثيرًا في الدين والسلوك والمعاصي، ولصٍّ يسرق وطنك ليلَ نهار على المكشوف، ثم يدعوك للتقوى والطهر والعبادة وممارسة الطقوس الزائفة!

كل عام ننتظر رمضان عسى أن تلين قلوب الأغنياء، وترأف ذواتهم بالفقراء واليتامى، ويشعرون برهبته وفضائله وعطاياه؛ لكن عندما يأتي نصطدم بازدياد بخلهم ونهمهم للمال الحرام. فلا أثرٌ طيبٌ وذكرى حَسَنَة، ولا معروف جميل يُقتدى به، إلا أثر البخل والجشع والأنانية. ربما نسمع قصص كرم الفقراء؛ إذ يفوقون بكثير في جودهم وحسن ضيافتهم هؤلاء الذين تمتلئ خزائنهم بالمال الحرام والذهب والياقوت. والمرجان!

بالمقابل، ليس في الحياة لونٌ أسود فقط، فهناك الأبيض الذي يفتح لك أبوابَ الأمل بجمال الدين وتسامحه،" لو خليت قلبت". فما زالت النخوة العراقية حاضرة، وأصحاب الدين الخيِّرين، وعشاق الحياة، ورجال المال والاستثمار يقومون بأعمالٍ خيرية، وكثير منها في السر؛ لكن نسبتهم قليلة مقارنةً بأعداد الأغنياء (البخلاء) ولصوص المال الحرام.

إقرأ أيضاً: كن فيلسوفًا في الحياة

ومثلما أحزنني دمعة أب تقاعده 400 دينار عراقي، أوقف تسجيل ابنته في طب الأسنان لفصل واحد، بسبب رفض مالك إحدى الجامعات الأهلية في بغداد أطفاء مبلغ بسيط من قسط دراسي أخير، فأنني سعدت كثيرا بمنظر إنساني عندما وجدت طالبتين تخرجان من مكتب مؤسس (جامعة النور الأهلية) بنينوى، وهما تكادان تطيران من الزهو والفرح والنشوة الصادقة؛ لأن هذا الرجل أعفاهما من جميع مصاريف الدراسة لهذا العام؛ لعدم قدرة الأهل على شراء مستلزمات الدراسة. وعرفت أيضاً بالوثائق أن العمل الخيري يعد جزء من نظام الجامعة وتقاليدها المتبعة.

وأيًّا يكن الأمر؛ ما زلت مصرًّا على أن رمزية رمضان لا تتجسَّد بعدد مرات العمرة، أو العبادة وممارسة الطقوس... وقيام الليل فقط؛ إنما رمضان هو: رمزُ التواصل والتضامن الاجتماعي، ونخوة البذل والعطاء، ومساعدة الفقراء والأيتام والمحتاجين. رمضان هو العطاء والسخاء والرحمة الذي ننتظره لكي يفتح لنا باب الأمل. فلا أجمل ولا أروع هندسة في العالم من أن تبني للفقراء جسراً من الأمل على نهرٍ من اليأس.