لقد كانت الصدفة قدَرَ الكثير من الناس، وأنا كنت واحداً منهم؛ حيث وجَّهتُ وجهي شطرَ وجهة لم أكن أتوقعها، ولم أخطط لها قط. ومثلما قالوا قديماً في الأمثال: "رُب صدفة خيرٌ من ألف ميعاد"، فكانت تلك الصدفة الغريبة التي دخلتُ بها عالم الصحافة في بداية السبعينيَّات، على عكس أحلام شبابي أن أكون طبيباً أو طياراً أو رجل اقتصاد.

وشرفتُ برئاستي لمجلة (فنون) عام (1978)، وهي مجلة فنية وثقافية أسبوعية تابعة لوزارة الثقافة والإعلام، وثلاث صحف جامعية، وهي: (الإعلام)، و(الجامعة) في العراق، و(آفاق إعلامية) في الإمارات. فكانت التجربة الأولى مع صحيفة (الإعلام) عام (1987) التي يُصدرها قسم الإعلام /كلية الآداب بجامعة بغداد.

كانت الصحيفة في ذلك الوقت تُعاني من ضعفٍ في التحرير والتصميم والمحتوى، وكانت إدارة القسم والكلية والجامعة تشتكي حالها، وما آلت إليها من وضعٍ متردٍّ، وقد بدأتُ معها بطريقة مغايرة في الأسلوب، فشكَّلتُ فريقاً من الطلبة في هيئة تحرير الصحيفة، من طاقات شابة طموحة لعشق الصحافة وحروفها ومعاناتها، وكنت أُراهن عليهم، وأستفز مواهبَهم المكنونة وقدراتِهم المخفيّة؛ أمثال: كريم مشط، وسعد مطشر، وندى عمران، وزهرة الجبوري، وسهام الشقيري، وهؤلاء قد حصلوا على الدكتوراه فيما بعد، حيث يمارسون حالياً التدريس في مختلف الجامعات العراقية؛ إضافة إلى: موحان العاصي، ونهى السامرائي، وهند رشيد، وهناء جبار، وميخائيل بولص، وراجحة عبود، وربما هناك آخرون لم تُسعفني بذكرهم الذاكرة. كما بدأت بتطوير تصميم الصحيفة بطريقة أكثر تعبيراً وجاذبية، بقيادة المصمم الشاب آنذاك وليد نايف.

ويطفو على سطح الذاكرة العدد الأول، حيث كنت أقلب صفحاتِه في المطبعة، قبل التوزيع، وكاد قلقي آنذاك أن يفتك بي، ولم يغادرني هذا الشعور المر ويُستبدل بالطمأنينة والفرح إلا بعد أن رأيت رئيس القسم د. سنان سعيد يُقلِّب صفحات الصحيفة، وتظهر عليه بشريات السرور والاندهاش، وقد عانقني وشد على يدي بقوة.

وعندما صدر العدد الجديد، فقد كان مثار إعجاب الوسط الأكاديمي، فقد كتب الأستاذ الدكتور محمد حسين آل ياسين (رئيس المجمع العلمي العراقي حالياً) في زاويته الصحفية (أقول الحق)، في العدد السادس (1حزيران 1988)، عباراتٍ تُشيد بتطوُّر المجلة، قائلاً: " وأقول الآن صادقاً، بلا مجاملة أو تملُّق: إن الجريدة بعد رئاستها الجديدة، أصبحت أكثر متعة؛ حيث زادت دقتها الفنية وتنوَّعت في مادتها. لذلك أقدم تهنئتي الحارة إلى جميع العاملين في الجريدة، وأخص بالذكر رئيس تحريرها الدكتور/ ياس البياتي؛ لأنني أعلم أن ما تحقَّقَ للجريدة كان بذوقه وجهده ودأبه أولاً".

ثم بدأت (القصة الثانية) مع صحيفة (الجامعة) التي أسستها من الصفر؛ ففي منتصف عام (1989)، اتصل بي عميد الكلية آنذاك د. نوري حمودي القيسي، وطلب إليَّ أن أتوجه إليه في مكتبه بسرعة لأمر هام، وبعد المقدمات والإغراءات، فاتحني بالأمر، حيث قال لي: إن وزير التعليم العالي د. منذر الشاوي، قد طلب إليه ترشيح أحد أساتذة الإعلام ليقوم بتأسيس صحيفة (الجامعة)؛ لتكون صوتاً لجميع الجامعات والمعاهد العليا، ويكون مقرها الوزارة، ولم أجد إلاك مؤهلاً لها.

كان اللقاء الأول بالوزير صادماً، فقد رأيت فيه شخصاً مثالياً، وحالماً، وغير واقعي في الكثير من المطالب والأمنيات، إذ إنه كان يريد للصحيفة أن تكون على شاكلة صحيفة (لوموند) الفرنسية التي كان يعشقها حدَّ الهوس؛ في تصميمها وموضوعاتها، وبدأ يسرد لي قائمة من الأمنيات التي لا تمت بصلة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، إلى الواقع العراقي، وظروفه السياسية والثقافية والعلمية التي تختلف عن الواقع الفرنسي!

وبعد أن انتهى من سرد أمنياته الكثيرة، بدأ يستمع لي بنوع من الذهول عندما حدثته حول متطلبات التأسيس بالتفصيل الممل لإخماد بعض أحلامه غير الواقعية؛ بل فرحت لأنه كان مصدوماً وساخطاً من حديثي عن تلك المتطلبات بالتفصيل، إذ أحاط به الذهول من كل مكان؛ حيث كانت كل متطلباتي خارج كل توقعاته.

وقبل بدء العمل اشترطتُ عليه عدم التدخل في عمل الصحيفة، ما دمتُ رئيساً لتحريرها، فأنا المسؤول أمام الجهات المسؤولة في خيرها وفي شرها، ولكن لا بأس من تقديم النقد والاقتراحات عند صدور كل عدد، فلقد قرأت شخصيته أثناء جلساتي المتعددة معه؛ فوجدتُه صعباً في تقبُّله للأشياء بسهولة، وكان معتداً بنفسه، وعنده نرجسية قوية، ومزاجٌ متقلب، يسمع آراء الآخرين ويصدّقها.

ولأنَّ (الفأس وقع في الرأس) كما يقولون، فقد وجدت صعوبة في التراجع عن قرار الاعتذار عن رئاسة التحرير، والهروب من المهمة التي كنت أتوقع أنها ستأتي بأشياء سلبية، تتعارض مع شخصيتي العنيدة التي تمتلئ بالصدق وقول الحق. لذلك فكرت في حلٍّ مناسب: اقترحت عليه قبل صدور العدد الأول أن يكون هو رئيس التحرير، وأنا مدير التحرير، للتخلص من وجع الرأس، والاختباء وراء قوة الوزير، لكنه أبى ذلك بقوة، فقد كان ذكياً، ويعرف أن نار الإعلام ستكون قريبة منه أكثر من نار الوزارة ومسؤولياتها!

بعد يومين، قدمت له قائمةً بأسماء مستشاري الصحيفة، وكانوا من الأبرز في الجامعات، ولهم سمعة علمية كبيرة، وبعضهم لهم نشاطات إعلامية مشهودة، وبعد قراءة الأسماء، نظر لي من وراء نظارته البيضاء بابتسامة عريضة: أنت ما تخاف ... شيعة وشيوعيون! فقلت له بسرعة: مستشاروك من نفس الصنف يا سيادة الوزير؛ وتفاجأت بضحكته ذات النبرات المميزة بقوتها وإيقاعها الخاص. والحق، ومن خلال عملي معه، فقد كان عقله أكبر من هذه التفاهات لأنه كان ثقيل في العلم والمعرفة!

وكما توقعت، فقد برزت المشكلات بيني وبين الوزير منذ العدد الثاني؛ مرة حول تصميم بعض الصفحات، ومرة حول الموضوعات المختلفة، واختيار العناوين الصحفية؛ بل كان يدقق على بعض الأسطر من الموضوعات من رؤيته الخاصة! كان يريدها (بلوكات) مرصوصة بدون طعم الصحافة؛ لكنني كنت أضيف عليها نكهات صحفية لكي أحررها من الجمود الأكاديمي.

استمر التصادم والاختلاف بيننا، والشهود أحياء، فكلانا عنيد في أفكاره، ولم استجب للكثير من رغباته. وربما حققت بعضاً من أفكاره؛ ولكن بطريقة مغايرة، وبتكتيك مهذب، ولكنني كنت أنفذ ما أراه صحيحاً برؤية صحفية بعيدة عن المجاملة والتزلُّف.

وهكذا، وجدتُ في تجرِبتي مع الصحافة الجامعية عالماً جديداً مليئاً بالخبرات والمعارف، والمشاكسات والمتاعب الإدارية، ومع ذلك أيقنت أن وجود الصحافة الجامعية خيارٌ مهمٌّ في تعميق الوعي الجامعي، واستنهاض مواهب الطلبة، خاصة طلبة الإعلام؛ حيث المكان الأول لولادة الحرف، وتعلم فنون الصحافة ومتاعبها. فهي مدرسة الصحفي المبتدئ في كتابة الرسالة الأولى في غزل صاحبة الجلالة.