يقول عبدالرحمن الراشد إنّ تغيير الحدود لن يتوقّف عند حدود، على الرّغم من أنّ المخاض السّوريّ عسير حتّى الآن. لكنّ الخرائط المتبادلة في الإعلام الجدي تتخطّى العواطف والانتماءات إلى تغيير حتميّ.&فجوهر الصّراع في الشّرق الأوسط هو الرغبة في التّغيير، بالتّوسع والهيمنة.

لندن: لحظة تلفّظت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس بعبارتها الشهيرة "الشرق الأوسط الجديد"، بينما كان لبنان يتعرّض للقصف الإسرائيليّ&في صيف 2006، ما هدأت الألسنة، شرقًا وغربًا، تلهج بما يمكن أن تعنيه، تحليلًا وتخييلًا، هذه العبارة الأميركية الرّنّانة.&

بقي الشرق الأوسط الجديد جنينًا، لا يعرف جنسه ولا شكله، حتى ثارت موجة ما سمّي بـ "الربيع العربي"، وخارت قوى أنظمة وتبعثرت أخرى تحت المدّ الاسلامي وتشكل تنظيمات الأممية الاسلامية عابرة الحدود، ارتسمت معالم هذا الشرق الأوسط الجديد على أنقاض القديم المتهافت، وزاد ارتسام هذه المعالم مع وقوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلنًا برأس مرفوع:&"سوف نتدخل في سوريا عسكريًّا".&

كانت الرّدّة الفعل الأولى أيديو- جغرافية على ذلك، قائلةً&&"تفضلوا، فهذا تنفيذ لاتفاق كيري-لافروف (نسبة إلى وزيري خارجية الولايات المتحدة جون كيري وروسيا سيرغي لافروف)، الذي يحل محلّ اتفاق سيكس-بيكو. فالأول تقاسم تركة السلطنة العثمانية أو رجل أوروبا المريض، والثاني يتقاسم تركة الشرق الأوسط المريض.

داعش عابر الحدود

إن الحدود المرسومة، وهذا واقع، لم تعد هي التي تقف عندها التطلعات الآن، "ومنذ وقت طويل والموضوع المفضل لدى كثير من المثقفين العرب هو التنبّؤ بمؤامرات حول إعادة رسم الحدود، وتغيير&أنظمة منطقة الشرق الأوسط، وقد غذاها تغير الأحلاف الدولية؛ بسقوط الاتحاد السوفياتي، وتوحد أوروبا، وظهور مفهوم الإمبراطورية لدى منظري اليمين المتطرف الأميركي"، كما يقول الكاتب والمحلل السعودي عبدالرحمن الراشد في مقالة له بعنوان "تغيير الحدود لن يتوقف عند حدود"، نشرتها مجلة "الفيصل" الصادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، مضيفًا أن المفاجأة تكمن في أن تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) هو الوحيد الذي أعلن برنامج تغيير خريطة المنطقة وبدأ تطبيقها على الأرض حين أعلن أبو بكر البغدادي توسيع مملكته الصغيرة التي كانت محصورةً في غرب العراق، وضم إليها جبهة النصرة في سوريا، رافضًا الحدود التي رسمتها" القوى الاستعمارية" كما سماها، لينصب نفسه خليفةً على الخلافة الإسلامية التي لا حدود لها، واستولى مقاتِلوه على مناطق حدودية بين العراق وسوريا، ما وضعه في مرمى نيران الولايات المتحدة وروسيا في آن معًا.

التغيير حتميّ

يضيف الراشد: "داعش حركة تدمير لا بناء، ولن تستطيع تغيير منطقتها، دعوا عنكم قدرتها على تغيير العالم. وفي الوقت نفسه، لو هزمت داعش وقضِي عليها، فإننا لا نستطيع أن نجزم بأن المشهد القديم لمنطقتنا سيظل كما هو"، أي التغيير حتمي لا محال.

بعد العراق... كيف سيكون الشرق الأوسط؟

يدرك الراشد أن جوهر الصراع في الشرق الأوسط هو الرغبة في التغيير، بالتوسع والهيمنة، وقد ارتفعت درجة الإيمان بأن هناك مؤامرة دولية تحاك لإعادة تقسيم المنطقة، لكن تفكيك الدول المضطربة لا يحتاج إلى مؤامرة لأنها شبه منهارة ومفككة. فنظرية تغيير الحدود ما وراء حزام دول الثورات إلى الدول المستقرة في رأيه محض مخاوِف بواعثها الفوضى المنتشرة، وتزايد تدخلات إيران وتركيا، "والحروب في الأغلب ليست نتاج مؤامرات، إنما هي بسبب سوء إدارة الأنظمة للأزمات؛ مثلما حدث في سوريا، عندما لجأ النظام إلى سياسة القسوة المفرطة في التعامل مع تظاهرة صغيرة، التي تحولت إلى تمرد واسع، ثم ثورة ضد نظام الحكم. ولا ننسى أن غزو صدام حسين الكويت كان سببًا جوهريا في سقوط نظامه وغزو العراق لاحقًا".&

ليست عدوًا

نظريات التقسيم الجديد لدول المنطقة، أكانت مؤامرةً أم واقع حال يفرض نسفه، فذلك ليس أمرًا جديدًا.&لكن الجديد الذي يقدمه الراشد في مقالته هذه، معلومات ربّما يقرؤها القارئ العربي للمرّة الأولى، تتناول ما سمّاه أقرب نظريات المؤامرة إلى الحقيقة، راويًا ما حدث في واشنطن في 10 تموز (يوليو) 2002، بعد تسعة أشهر من هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، أكبر اعتداء على الأراضي الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، "ففي ذلك اليوم، عقِد اجتماع مغلق لمجلس السياسة الدفاعية The Defense Policy Board في البنتاغون، شاركت فيه 24 شخصيةً مهمةً من حكومة الرئيس جورج دبليو بوش، ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني، وجمع من وزراء الخارجية والدفاع والاستخبارات السابقين أيضًا. الاجتماع خصص لتدارس التعامل مع المملكة العربية السعودية، بعد تورط مجموعة من مواطنيها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واتهمت بأنها المسؤولة عن فِكر تنظيم القاعدة، وتمويله والدعاية له. وتولى محلل فرنسي في مؤسسة "راند"، يدعى لوران موراويك تقديم دراسة ومشروع ضد السعودية، والعرض المقترح وصل إلى حد الدعوة إلى الاستيلاء على المناطق البترولية السعودية، بوصفها دولةً عدوا تهدد أمن أميركا والعالم".

وبحسب الراشد، لم يعترض من الموجودين على التحليل والفكرة سوى وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنغر، الذي قال: "صحيح لدينا مشكلة مع السعودية، لكن السعودية دولة صديقة، وليست عدوًّا". بقي هذا الاجتماع طي الكتمان شهرًا، وحين انفضح أمره، وسئل الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة في واشنطن حينها، عن ذلك، أجاب "ترديد الأكاذيب لا يجعل منها حقائق".

تفكيك سوريا صعب

يتفق الناطر إلى ظواهر الأمور مع العارف ببواطنها كالراشد على أن في العراق وسوريا فاتحة التغيرات إن قُسم لها أن تحصل، فبعد ما مر به البلدان، يستحيل أن يعودا كما كان العالم يعرفهما. وفي هذا السبيل، يستعيد الراشد خرائط جديدة للمنطقة نشرها مراسل نيويورك تايمز حينها روبرت وورث في تقرير نشر في 26 حزيران (يونيو) 2014، كما يستذكر قوله إنه يرى أن الإقليم الكردي في العراق أكثر حظًا في الانفصال، لكنه يعتقد أن تفكيك الدولة السورية أمر صعب ومعقد، "والخيارات المقبولة والبديلة هي منح الأقاليم مزيدًا من الاستقلالية الإدارية على حساب المركز".&

وبحسب مقالة الراشد، تطرقت مجلة أتلانتيك الأميركية إلى تغيير خرائط الشرق الأوسط في العام 2006، تحت عنوان: "بعد العراق: كيف سيبدو الشرق الأوسط؟"، لكنه لم يكن أكثر من محض اجتهاد شخصي من الكاتب جيفري غولدبيرغ.

يقول الراشد: "كتب كثيرون عن العراق خصوصًا، بإعادة رسم خريطته وتفكيكه، وهذه لم تكن نظرية مؤامرة، بل هي طرح علني، سبق أن قدم مشروعًا من جو بايدن، نائب الرئيس الحالي، عندما كان سيناتورًا في مجلس الشيوخ في العام 2006. بايدن دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول: كرديّة، وسنّيّة، وشيعيّة؛ ليكون مثل يوغسلافيا، التي جرى تفكيكها؛ لوقف الحروب بين إثنياتها في اتفاقية دايتون. إنما كل الإدارات الأميركية السابقة والمتعاقبة: بيل كلينتون، ودبليو بوش، والحالية باراك أوباما، التزمت بعراق موحد. والسبب الأول يرجع إلى صعوبة تأسيس مثل هذه الدول، وثانيًا هناك خوف من فكرة تغيير الخرائط وعواقبها على المنطقة".&

الاتفاقية الأشهر

يرى الراشد أن دول المنطقة، بما فيها إيران، ليست متحمسةً للتقسيم، بخلاف بعض قيادات العراق الشيعية التي تريد التقسيم لأنه يعطيها دولة صغيرة بثروة كبيرة، "إلا أن إيران مثل تركيا تخاف تبعاتِ منح إقليم كردستان العراق استقلاله؛ خشية أن يفتح الباب لأكراد إيران، وتعدادهم ثمانية ملايين، فيطالبون لاحقًا باستقلالهم، ويهدد وحدة إيران المكونة من إثنيات ستطالب بالحق نفسه، ولا تريد إيران أيضًا دولةً سنية في غرب العراق لأنها ستظل مصدر تهديد لبغداد وبقية الجنوب. ومن ثم، فإن مصلحة الجميع الإبقاء على خريطة سايكس-بيكو، ربما باستثناء كردستان العراق".

وربما أتت اتفاقية سايكس-بيكو هذه، التي يسميه الراشد في مقالته بأنها أشهر اتفاقية سِرية، على ما أتت عليه لأنها حصلت في وقت لم يكن فيه معظم الدول العربية بالمعنى المتعارف عليه اليوم، "وخريطة عراق الأمس ليست مثل التي نشاهدها الآن، ولا سوريا. الحقيقة أن فلسطين هي التي كانت الضحية؛ لأنها منِحت اليهود إلى الأبد، بما فيها القدس"، من دون أن يعني ذلك برأيه أن الظلم ما لحِق بعرب وادي الرافدين، "إنما أتحدث عن تغيير الحدود، فالعراق وسوريا كانا يخضعان لحكم الأتراك، ثم صار البلدان يخضعان لحكم التاج البريطاني وفرنسا. والبريطانيون هم الذين أسسوا دولة العراق الحديثة، بتوسيع حدودها، وضمّوا إليها إقليم كردستان، مع أن الأكراد لا يتحدثون العربية.

من منظور تاريخي

ويختم الراشد مقالته بالآتي: "عندما نضع اتفاقية سايكس-بيكو في منظورها التاريخي، نستطيع أن نفهم العالم كما كان، وليس كما ننظر إليه اليوم، فالفرنسيون والبريطانيون تقاسموا تركة الدولة العثمانية، مثلما تقاسموا بقية دول العالم بعد الحرب العالمية الأولى؛ من الصين إلى جنوب شرق آسيا، حتى المغرب وبقية دول إفريقيا. وتصارعت الدول الاستعمارية، حتى بلغ الصدام بينها داخل القارة الأوروبية نفسها، وانفجر لاحقًا كحرب عالمية ثانية، وتسبب الدمار الهائل والدماء في تحطيم أوروبا، ومعها انتهى المفهوم الاستعماري، وتحول معظم العالم الثالث إلى عصر الدولة القومية بحدود مرسومة ودائمة. واتفقت الدول الكبرى على المحافظة، قدر المستطاع، على حدود الدول القديمة مثلما هي، بعد حسم الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أن خلافات الحدود كثيرة، فإن حروبها قليلة، وقد تعايشت معظم الأمم معها؛ طلبًا للسلم والاستقرار. كما أن الدعوات الانفصالية لم تجد كثيرًا من التعاطف، مهما كانت مسوغةً؛ خوفًا من انتشار عدواها؛ إذ توجد ميول انفصالية تقريبًا في أغلبية دول العالم، مثلما نرى في إسبانيا وبريطانيا وغيرهما".