محمد خليفة

التفكير في السياسة هذه الأيام لا مفر منه مع أنه يثير الفزع؛ لأن الجو السياسي العالمي يبدو ملوثاً بأدخنة الحرب وروائح البارود، فقد بدأت تتجمع سحب الحرب العالمية الكبرى بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، فبعد انفجار الخلاف بين دول التحالف الغربي وروسيا حول عدد من الأزمات الدولية، يبدو أن السلام بات أمراً صعب المنال. فالدول الكبرى هي التي ترسم مصاير الشعوب، وإذا اختلفت هذه الدول؛ فإنها تنسف الأمن والاستقرار، وقد حدثت حربان عالميتان في السابق، كان الدافع الرئيسي لهما هو سعي القوى الكبرى آنذاك للانفراد بالقرار الدولي.

 ورغم أن الحرب العالمية الثانية قد أنتجت سلاماً؛ لكنه لم يكن دائماً، فبعد فترة من تلك الحرب حدث ما سُميَ بعد ذلك ب«الحرب الباردة»؛ بسبب الصراع الإيديولوجي الذي ظهر بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك القطب الشرقي، ظن العالم أن السلام سوف يعم بوجود قوة دولية واحدة هي الولايات المتحدة؛ لكن ذلك كان مجرد أحلام؛ إذ سرعان ما انبعثت روسيا من تحت ركام الاتحاد السوفييتي السابق، بعد أن ورثت تركته العسكرية، فعادت لتتحدى، وعملت على نسج تحالف استراتيجي مع الصين يهدف إلى منع الولايات المتحدة من التفرد بحكم العالم. الأمر الذي قد يدفع إلى العودة لمنطق الحرب العسكرية لحسم الصراع. وهذا ما رجحه ستيف بانون أبرز مستشاري ترامب عندما قال: «إننا ذاهبون إلى حرب في بحر الصين الجنوبي في غضون 5 إلى 10 سنين». وأضاف: «لا شك في ذلك. لديك الإسلام التوسعي والصين التوسعية. إنهما متغطرسان. ووصف الإسلام بالدين «الأكثر تطرفاً» في العالم. 
ورغم تجنب روسيا والولايات المتحدة الحديث عن سباق التسلح، وهو ما ينطوي على خطر وقوع الحرب؛ لكن مجريات الأحداث تؤكد أن ثمة سباق تسلح يجري بشكل سري، فقد فوجئ العالم في 12 مايو/ أيار 2016، بأن الولايات المتحدة نشرت الدرع الصاروخية في رومانيا، وفي قاعدة مماثلة شمالي بولندا، وستصبح جاهزة للعمل في 2018. وفيها سيجري نشر صواريخ اعتراضية متوسطة المدى من طراز «إس ام -33». وفي نفس اليوم جاء رد فعل روسيا على لسان الرئيس فلاديمير بوتين، الذي أعلن أن «الولايات المتحدة لن تتمكن من خداع روسيا بالتصريحات حول الطابع الدفاعي لهذه المنظومة، وأن الحديث يجري عملياً عن نقل قسم من الترسانة النووية الأمريكية إلى أوروبا الشرقية؛ لتصبح قريبة جداً من حدود روسيا، التي سترد بشكل مناسب على هذا التهديد لأمنها القومي». ثم وجه أقوى تحذير إلى رومانيا وبولندا، وقال إنهما ستكونان تحت مرمى الصواريخ الروسية، رداً على نشر الدرع الصاروخية الأمريكية على أراضيهما.
والواقع أن الولايات المتحدة لم تعلن سابقاً أنها ستنشر صواريخ اعتراضية في رومانيا؛ بل كانت تقول إنها ستنشر هذا النوع من الصواريخ في بولندا وتشيكيا، لرد هجمات صاروخية من دول مثل إيران وكوريا الشمالية؛ لكن اختيار رومانيا ليكون فيها أول قاعدة لهذه الصواريخ، يدل على أن المستهدف هو روسيا وليس غيرها، فرومانيا تشترك في الحدود مع روسيا، وإذا نشرت فيها صواريخ توما هوك الحاملة لرؤوس نووية أيضاً، فإن هذه الصواريخ ستصيب أهدافها بسرعة داخل الاتحاد الروسي، وإذا قررت روسيا الرد بهجوم صاروخي على الولايات المتحدة، فإن الصواريخ الاعتراضية الموجودة في رومانيا وبولندا ستكون جاهزة لإسقاط الصواريخ الروسية التي ستكون لا تزال في مرحلة الإقلاع، ويكون من السهل إسقاطها. 
فمثلاً في الثمانينات من القرن الماضي نشرت الولايات المتحدة في غرب أوروبا صواريخ توماهوك لضرب أهداف في القسم الأوروبي من الاتحاد السوفييتي، وكانت تلك الصواريخ تحتاج فقط من 5 إلى 88 دقائق لتصيب أهدافها. والآن إذا انتشرت صواريخ توماهوك في رومانيا وبولندا فستصبح أقرب إلى المدن الروسية من تلك الفترة بألف كم أو أكثر، وبالتالي سيتقلص زمن وصولها للهدف؛ وهذا يعني أن الوقت سينعدم تقريباً لدى القيادة الروسية، بعد إطلاق مثل هذه الصواريخ، لكي تقرر هل تعرضت البلاد لهجوم نووي أم لا؟ وهل يجب أن تعطي الإشارة بالرد قبل أن يتم تدمير الصواريخ الروسية، وهي بعدُ في قواعدها؟
إنّ الولايات المتحدة في استراتيجيتها هذه لنشر الأنظمة الدفاعية الصاروخية في دول أوروبا الشرقية التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق، تبدو غير عابئة نهائياً بالمصالح الاستراتيجية لروسيا؛ بل تعمل على نسف معاهدة«ستارت»، التي انطلقت عام 1991، وكان يتعين بموجبها على كل من الولايات المتحدة وروسيا، أن تقلصا وسائل نقل الأسلحة النووية من الصواريخ والقاذفات الاستراتيجية.
ويقصد بمنصات الإطلاق: منصات إطلاق الصواريخ البالستية العابرة للقارات، والغواصات الاستراتيجية، والقاذفات الاستراتيجية الثقيلة. وبعد تقليص عدد الرؤوس القتالية ووسائط حملها، وفقاً لهذه المعاهدة، لم يعد هناك أي أمل لبقائها، في حال الهجوم الأمريكي المفاجئ، الكمية الكافية من الصواريخ الروسية لتوجيه الضربة الانتقامية. وهذا بحد ذاته سيزيد من مستوى خطر المواجهة النووية بين روسيا والولايات المتحدة؛ لكن هل سترد روسيا على القرار الأمريكي بنشر الدرع الصاروخية في رومانيا؟!
الواقع أن الدلائل تشير إلى أن روسيا لن تسكت على نشر هذه الدرع؛ بل ربما تقوم بتوجيه ضربة استباقية إليها بواسطة صواريخها البالستية؛ بهدف تدميرها، ما قد يؤدي إلى انزلاق الأمور نحو مواجهة نووية بين الدولتين، وفي أقل تقدير فإن روسيا ستدخل في مواجهة عسكرية مع الدول التي تتواجد بها هذه الدرع، تحت ذريعة أنها تهدد أمنها القومي.