هل شرب الرئيس الأميركي جو بايدن حليب السباع أخيراً وقرر رد الصاع صاعين لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أمعن في تحديه طوال خمسة أشهر من الحرب على غزة، وتجاهل نداءاته إلى هدنة إنسانية وتجنب اقتحام رفح، الجيب الأخير للجوء فلسطينيي غزة من ويلات الحرب الوحشية عليهم؟ وهل يشكل امتناع واشنطن عن التصويت على قرار مجلس الأمن الأخير الداعي إلى وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان منعطفاً تاريخياً في العلاقات الأميركية الإسرائيلية؟

إنها مرة نادرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ قيام المجلس عام 1945 لا تستخدم أميركا فيها الفيتو ضد قرار يدين إسرائيل أو يدعوها إلى وقف أعمالها العدوانية ضد الفلسطينيين أو اللبنانيين وضد جيرانها من الدول العربية. لقد استخدمته 35 مرة في موضوع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وحده، وامتنعت عن استخدامه مرتين اثنتين فقط، إضافة إلى المرة الأخيرة.

جن جنون نتنياهو وزمرته من اليمينيين المتطرفين بعد امتناع أميركا عن التصويت على قرار مجلس الأمن. تعودت إسرائيل خلال تاريخ حروبها واعتداءاتها الطويل على جاهزية الفيتو الأميركي الدائمة لإنقاذها من غضب العالم وإجراءاته للجم تغوّلها في ارتكاب العنف والوحشية ضد المدنيين، وفي مخالفة القوانين والاتفاقيات الدولية، وفي ضمها الأراضي التي تحتلها بالقوة من الدول المجاورة، كما حصل في الجولان أو الضفة الغربية.

ألغى نتنياهو إرسال وفد إلى واشنطن كان مقرراً إرساله للبحث في الهجوم على رفح والمساعدات الإنسانية وصفقة تبادل الأسرى، وأصيب الوسط السياسي والحكومي في إسرائيل بهزة قوية، فقدم الوزير جدعون ساعر استقالته احتجاجاً على عدم الحسم بسرعة في الحرب على غزة، ووجد الوزراء بن غفير وسموتريتش وغالانت فرصة مواتية لتصعيد خطابهم الدموي الداعي إلى المياشرة فوراً باجتياح رفح والقضاء على "حماس" نهائياً أياً كانت التداعيات.

لدى التعمق في قراءة قرار مجلس الأمن، يبدو واضحاً أنه ليس قراراً حاسماً ولا زجرياً بحق إسرائيل، ولا يملك القوة التنفيذية، إذ لم يدرج تحت البند السابع، وهذا يعني أن لا قدرة للمجلس على فرضه بالقوة، وهو ما سارعت الولايات المتحدة إلى تأكيده عبر إعلانها أن القرار غير إلزامي، الأمر الذي تلقفته الطبقة الحاكمة في إسرائيل، مؤكدة استمرار الحرب على غزة وتصعيدها في الشمال على الحدود اللبنانية.

قد يكون الموقف الأميركي فاجأ الإسرائيليين الذين لم يكونوا يتوقعون أن يذهب الرئيس بايدن إلى هذا الحد في اعتراضه على إدارة بنيامين نتنياهو للحرب على غزة، رغم الدعم الأميركي اللا محدود لهذه الحرب. وصلت الغطرسة بنتنياهو إلى حد رفض كل المقترحات الأميركية من أجل هدنة إنسانية وعدم الهجوم على رفح قبل تأمين إجراءات لحماية المدنيين وتأمين وصول المساعدات الإنسانية.

لقد وضع نتنياهو الرئيس الأميركي في موقف ضعف قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يواجه فيها خصماً يبدو مرتاحاً أكثر إلى وضعه هو دونالد ترامب. كان بايدن يبدو ضعيفاً ومتردداً حيال إسرائيل التي ارتفعت الضجة العالمية، حتى لدى حلفائها، ضد جرائمها الوحشية في غزة وإصرارها على المضي في حملة رفح رغم كل النداءات والتحذيرات من مجازر وأزمة إنسانية لا تُحتمل ولا يستطيع العالم تجاهلها.

لعب بايدن لعبته بخبث، وجه صفعة خفيفة لنتنياهو لن تؤذيه مرحلياً، وبدا كأنه يستعيد بعضاً من لغة الحزم والقدرة على مواجهة الأصدقاء كما الخصوم. وسعى البيت الأبيض فور صدور القرار إلى إفراغه من أي مضمون، فهو ليس إلزامياً، ولا يمنع هجوماً على رفح ويشترط لتطبيقه إفراج "حماس" عن كل الأسرى لديها.

صحيح أن مصير قرار مجلس الأمن سيكون كمصير عشرات القرارات التي ضربت إسرائيل بها عرض الحائط ولم تلتزم تطبيق أي منها، لكن ما يجب التوقف عنده والتساؤل عن مآلاته هو الموقف الأميركي عدم استخدام الفيتو ضد القرار. هل هو بداية تغيير في الموقف الأميركي من إسرائيل التي يتحمل دافع الضرائب الأميركي كلفة حربها اللا إنسانية؟ أم هو عملية ضغط محدودة لتحقيق أهداف محدودة كتغيير في إدارة الحرب شكلاً؟ أم هو رسالة إلى نتنياهو بأن صلاحيته في حكم إسرائيل شارفت على الانتهاء؟

قد يكون الموقف رسالة متعددة الأهداف، لكنها ليست قوية إلى حد يحدث تأثيراً فورياً، فإسرائيل في المحصلة قد تستفيد من القرار الذي ما كانت أميركا لتمرره لو كان يضر بمصالحها، وفي الجهة المقابلة لن تستفيد "حماس" من القرار الذي يربط الهدنة بإطلاقها كل الأسرى، ما يجردها من ورقة قوتها.

يبقى أن السجال الإسرائيلي الداخلي وتخلخل الائتلاف الحكومي اليميني قد يكونان أبرز تجليات الموقف الأميركي، لا سيما مع تصاعد اللهجة في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية محملة نتنياهو مسؤولية توتر العلاقة مع الولايات المتحدة وقيادة إسرائيل نحو أسوأ وضع.

لا يبدو نتنياهو في وضع قوي بعد الآن رغم ضعف "الصفعة"، فالأرض في إسرائيل تتحرك تحت قدميه، وأميركا قد تكون بدأت تعمل، بحسب المؤشرات، على التخلص منه، فيما يستمر هو بعناده الذي لن ينقذه منه حتى ترامب في حال وصوله إلى الرئاسة في أميركا، فالمرشح الجمهوري المؤيد بقوة لإسرائيل أعلنها صراحة أنه ليس مع الحرب وأنه لم يكن ليسمح بوقوعها أصلاً.

التوقعات غائمة، لكن شيئاً ما حدث يُبنى عليه في استشراف المستقبل.