وليد محمود عبدالناصر

تمر هذه الأيام الذكرى الـ 65 لثورة 23 تموز (يوليو) المصرية. وبهذه المناسبة، كثرت المساهمات التي تحاول تقييم إرث تلك الثورة في العديد من المجالات، سواء داخل مصر أو خارجها، وفي ميادين السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع أو الثقافة أو القانون أو الأيديولوجيا أو غيرها، مع إعلان كل طرف التزامه الموضوعية والحياد.

سأسعى هنا الى تناول جانب واحد من هذا ارث ثورة يوليو، وهو محاولات الثورة المصرية لإنجاز هدف الوحدة العربية، وإن بدرجات متفاوتة من مرحلة إلى أخرى. ومثل بقية آثار الثورة، نجد أن الآراء تتباين فيما يتصل بتقدير دورها. وسأسعى في هذا المقال إلى أن يكون التقييم ملتزماً بظروف وبيئة المرحلة التي نتناولها وليس طبقاً لمعايير اليوم أو لمعايير سبقت فترة الثورة.

مثلت الوحدة العربية مطلباً لقطاعات عريضة من الشعوب والنخب العربية منذ الانهيار الرسمي لآخر سياق جامع لغالبية البلدان العربية، حتى لو كان شكلياً، وهو الدولة العثمانية، في عشرينات القرن العشرين. ولم تلتزم ثورة يوليو بنهج واحد في هذا الإطار.

ففي عهد الرئيس محمد نجيب كان هناك السعي للحفاظ على وحدة مصر والسودان، وكانت الأفضلية خلال المرحلة الناصرية للصيغة الوحدوية الاندماجية، كما حدث في الحالة المصرية السورية (1958-1961) وتم محاولته لاحقاً من دون نتيجة إيجابية في محادثات الوحدة الثلاثية المصرية- السورية- العراقية في 1963، إلا أن ذلك لم يحل دون المرور بمحاولة اتحادية تمثلت في اتحاد الدول العربية بين الجمهورية العربية المتحدة (مصر/سورية) واليمن في عهدها الإمامي، وهو ما تحول في أواخر الحقبة الناصرية إلى تفضيل أشكال أخف بدأت بصيغة اتحادية تمثلت في ميثاق طرابلس المصري- الليبي- السوداني. 

ثم في عهد الرئيس الراحل السادات، في صيغة اتحاد الجمهوريات العربية (مصر وليبيا وسورية) ثم صيغة اندماجية لم تتبلور أصلاً في شكلها النهائي للوحدة المصرية- الليبية، لم يتحمس لها السادات، ثم تجربة نموذج جديد تمثل في التكامل المصري- السوداني، ثم الانتقال إلى صيغة فضفاضة ومرنة للتضامن العربي، لم تستمر طويلاً بفعل تطورات ما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ثم زيارة الرئيس السادات القدس وما تبع ذلك من قطيعة مصرية مع غالبية الدول العربية استمرت إلى ما بعد وفاته بسنوات، وتعمقت بفعل انتصار الثورة الإيرانية في شباط (فبراير) 1979 واندلاع الحرب العراقية- الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980.

كانت المحصلة أن أياً من هذه الصيغ لم تستمر لفترة طويلة، يستوي في ذلك ما تم مع دول ذات حدود مشتركة مع مصر مثل ليبيا والسودان، أو مع دول لا تربطها حدود مشتركة ولكن تجمعها ذاكرة تجارب وحدوية سابقة مع مصر مثل سورية، أو مع دول كان ينظر اليها باعتبارها في موضع المنافسة على الزعامة الإقليمية مع مصر، مثل العراق. ولا شك في أن لهذه النتائج أسباباً موضوعية تتصل بالبيئة الداخلية مصرياً والخارجية عربياً ودولياً، ومعطياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وأخرى ذاتية ترتبط بشخصية القيادة المصرية والقيادات العربية الأخرى ومرجعياتها والنخبة التي تحيط بها.

كان من أسباب محدودية نجاح المحاولات الوحدوية العربية التي قامت بها ثورة يوليو ما يتعلق بمصالح أطراف إقليمية غير عربية وأخرى دولية رأت في محاولات الوحدة العربية تهديداً لأدوارها الإقليمية، في حالة الأطراف الإقليمية غير العربية، ولنفوذها وتأثيرها في المنطقة، في حالة الأطراف الدولية، وبالتالي صب دائماً لمصلحة تلك الأطراف الإعلاء من شأن هويات ومرجعيات غير عربية، وفي الوقت ذاته التأكيد على أن المنطقة ليست عربية فقط، بل أحياناً الذهاب إلى حد الدفع بأن العرب ليسوا غالبية سكانها.

كما يندرج ضمن تلك الأسباب أن المحاولات الوحدوية ارتبطت في غالبية الأوقات، خصوصاً في الحقبة الناصرية، بعمليات بناء محاور هي في حالة عداء، أو على الأقل تنافس، في ما بينها، داخل الدائرة العربية، وكانت مصر طرفاً في معظمها، وذلك في زمن أطلق عليه أستاذ العلوم السياسية الأميركي الراحل مالكوم كير تعبير «الحرب الباردة العربية»، وسواء كانت تلك المحاور بين دول ذات نظم جمهورية في مقابل دول ذات نظم ملكية، أو بين دول تم وصفها بأنها «محافظة» مقابل دول أخرى اعتبرت نفسها «تقدمية»، أو دارت بين دول كان من المفترض أنها تنتمي إلى المعسكر «التقدمي» ذاته. 

وكانت السمة الأخرى لتلك المحاور المرتبطة بمحاولات تحقيق الوحدة العربية هي سرعة تغير أطرافها من مرحلة لأخرى، وفي هذه الحالات كان كل محور ينظر إلى أي محاولة وحدوية تتم في سياق محور آخر باعتبارها تهديداً مباشراً له وللأمن القومي لدولته ولمصالحها الوطنية.

يرتبط السببان السابق ذكرهما في شكل مباشر في اتصالهما بمحاولات الوحدة العربية التي قامت بها ثورة يوليو، حيث إن سياسة المحاور العربية وما أدت إليه من إعاقات من داخل البيت العربي لبعض محاولات الوحدة العربية كان من نتيجتها ارتباط كل محور عربي بطرف دولي خارجي أو أكثر، أو بطرف إقليمي غير عربي أو أكثر، وهي أطراف يجمع بينها اعتبارها الوحدة العربية خطراً على مصالحها، وكان من شأن ذلك المزيد من الإضرار بفرص تواصل محاولات الوحدة العربية.

وإذا انتقلنا إلى تناول السبب الثالث لتعثر أو قصر عمر محاولات الوحدة العربية، نجد أن هذه التجارب قامت في الأساس بناءً على قرارات اتخذتها قيادات مصر والدول العربية الأخرى التي كانت طرفاً في تلك التجارب الوحدوية، وكانت هناك علامات استفهام في شأن مدى استعداد القاعدة العريضة من الشعوب العربية ليس فقط لقبول التجارب الوحدوية بل للاستعداد للقتال دفاعاً عن استمرارها، وارتبط بعدم الربط المباشر بين تلك المحاولات الوحدوية وإيجاد مصالح ملموسة تعود على مختلف المجتمعات المشاركة في تلك التجارب.

وعلى رغم عدم استمرار بعض المحاولات الوحدوية العربية إلا لفترة قصيرة وعدم وصول بعضها الآخر إلى محطاتها الأخيرة، فإن الثابت أن هذه المحاولات كان لها دورها في رفع درجة الوعي لدى الشعب المصري ونخبته على وجه الخصوص، وكذلك لدى قطاعات مهمة من الشعوب العربية في شكل عام، بالبعد العربي لهوية وانتماء تلك الشعوب، وهو ما أدى إلى اختلاف نوعي في هذا البعد، خصوصاً إذا قارنا بين ما قبل 1952 وما بعد 1973، بل إننا نلحظه في شكل واضح في أوقات الأزمات والحروب التي خاضتها مصر ودول عربية أخرى في مواجهة إسرائيل، كما هي الحال في حرب 1967 رفضاً للهزيمة، كما أظهر الشعب السوداني خلال قمة الخرطوم العربية في أيلول 1967، وتأكيداً للمصير العربي المشترك، وفي حرب 1973 دعماً لمصر وسورية في سعيهما الى تحرير الأراضي العربية المحتلة، وعند مواجهة مصر للعدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي عقب قرار القيادة المصرية تأميم قناة السويس في عام 1956.

ما تقدم يوفر دليلاً على أنه خلال خمسينات وستينات وسبعينات القرن العشرين لم يكن تحقيق الوحدة العربية يعتبر حلماً بعيد المنال، بل كان قابلاً للتحقيق، وتحقق فعلاً في عدد من الحالات، بما فيها على يد القيادة المصرية آنذاك، وهو أمر ربما اختلف بعد ذلك في ضوء تطورات لحقت بالمشهد العربي في مجمله بعد حرب 1973، بما فيها التعامل مع ملف تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي القلب منه القضية الفلسطينية، وكذلك الحرب الأهلية اللبنانية، ثم تداعيات زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات القدس، ثم الحرب العراقية- الإيرانية، وصولاً إلى الغزو العراقي للكويت عام 1990 وتداعياته وصولاً إلى غزو العراق في 2003، بل وحتى الأحداث التالية لما أطلق عليه «الربيع العربي» في 2011، وهي تطورات أثرت سلباً في النظر إلى الوحدة العربية باعتبارها هدفاً ورغبةً، بل أثارت النفور من هذا الهدف لدى بعض قطاعات الشعوب العربية وجعلته هدفاً غير قابل للتحقق عملياً، وبالتالي أصبح الهدف هو تسوية النزاعات العربية- العربية على أمل الوصول إلى حالة من التضامن العربي العام.


* كاتب مصري