يتخيل بعض متابعي الحملة على السوريين في لبنان، أن اللبنانيين والسوريين أعداء، وأن بين الشعبين والبلدين ما صنع الحداد. وللحق فإن هذا التقدير خاطئ؛ لأن أصحابه لا يعرفون حقيقة الوقائع الجارية في علاقات الشعبين والبلدين الممتدة من الماضي، ولا يقدرون ضرورة العلاقات بينهم في المستقبل، والأهم أن أصحاب هكذا تقدير، لا يأخذون في الاعتبار الظروف والحيثيات المرافقة، والتي تجعل منها حملة سياسية مغرضة منظمة ومقصودة، اعتادت بعض الأوساط اللبنانية في السنوات الأخيرة على القيام بها، كلما واجه لبنان أو أطراف متحكمة فيه مأزقاً أو تحدياً كبيراً، فيتم إطلاق حملة لحرف اهتمامات اللبنانيين عن التطورات الخطيرة المحيطة بهم، وإشغالهم بموضوع السوريين في لبنان بعد دعمه ببعض المحرضات الشعبوية.

الحملة الحالية انطلقت على خلفية حادثة مقتل منسق حزب «القوات اللّبنانيّة» في جبيل الراحل باسكال سليمان، التي قال مسؤولون لبنانيون إنها سوف تخضع للتحقيق، وأضافوا أن مرتكبي الجريمة عصابة لسرقة السيارات، وأنهم من الجنسية السورية، وكانت الإشارة الأخيرة مقدمة انطلاق الحملة. ورغم أن الإشارة لا تحمّل السوريين وبخاصة اللاجئون منهم أي مسؤولية عن الجريمة، فإنها صارت الباب الذي انطلق منه تهديد وتحريض واعتداءات جسدية وتخريب ممتلكات تخص سوريين، وقد يتوسع الأمر أكثر ما لم يبادر أصحاب المسؤولية والضمير من اللبنانيين لتدخل فعال يوقف الحملة.

وقبل الدخول في تفاصيل الحملة، يستحق الأمر تمرير بعض ملاحظات ذات صلة، بدايتها أن سوريا ولبنان كانا قبل مائة عام في إطار كيان واحد، كانت دمشق حاضرته الرئيسية، ونخبته كانت واحدة، ومن صفوف وحدتها جاء الرجال الذين صنعوا استقلال البلدين عن الانتداب الفرنسي، وكان انتقال العائلات والأشخاص شائعاً بين البلدين، وهناك مئات العائلات ذات الأصول السورية في النخبة اللبنانية، والنسبة أقل من العائلات اللبنانية في سوريا نتيجة التمايز في العدد، وبين من لمع من الأصول اللبنانية في سوريا السياسي ورجل الدولة فارس الخوري، واللواء شوكت شقير، واللواء عفيف البزري، اللذان شغلا منصب رئيس أركان الجيش السوري في خمسينات القرن العشرين.

وطوال القرن الماضي احتفظ البلدان بعلاقات خاصة، كان بين تعبيراتها إقامات سهلة وحركة حرة للأشخاص بين البلدين، وتأثر كل منهما بصورة مباشرة بما يحدث في البلد الآخر.

وجود السوريين في لبنان ليس أمراً طارئاً؛ إذ يعود إلى عقود، اعتاد سوريون الذهاب إلى لبنان لأشياء مختلفة وبخاصة للعمل، ومن المعروف أن قطاعي الزراعة والبناء اللبنانيين، قاما في جزء أساسي منهما على قوة العمل السورية، والتي كان حضورها ملموساً في قطاع الخدمات والسياحة أيضاً، وعندما حصل الاحتدام في العلاقات السورية - اللبنانية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقادة لبنانيين آخرين عام 2005، قُدر عدد العمال السوريين في لبنان بنحو 750 ألفاً باستثناء المقيمين الذين لم تكن إقامتهم تتطلب إجراءات صعبة.

ورغم التوترات التي شابت علاقات البلدين في العقدين الأخيرين، استمر مجيء السوريين إلى لبنان، وذهاب اللبنانيين إلى سوريا، ووسط ارتفاع وتيرة الصراع السوري ومجيء ميليشيات «حزب الله» و«قوات الزوبعة» وغيرهما إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام، تزايد عدد الذاهبين السوريين إلى لبنان، وأغلبهم من سكان مناطق اجتاحتها ميليشيات «حزب الله»، وثمة أسباب أخرى لتزايد السوريين هناك بينها القرب وسهولة السفر وعلاقات السكان على جانبي الحدود، والتشابهات الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى أن سوريا كانت في الخمسين عاماً الماضية ملاذاً وممراً لبنانياً نتيجة الصراعات الداخلية وبسبب حروب إسرائيل على لبنان.

بالعودة إلى موضوع الحملة، فإنها مكررة، وارتبط تكرارها غالباً بوجود أحداث سياسية واقتصادية ذات تأثير كبير على لبنان، منها ما يحدث في لبنان حالياً، وارتبطت في بعض الأحيان بمحاولات ابتزاز المجتمع الدولي للحصول على مزيد من التقديمات والدعم لمواجهة أزمات السلطة في لبنان، وكانت أحياناً بوابة من أجل تسليم مطلوبين سوريين للنظام السوري، وكلها حالات تؤكد الاستخدام السياسي للحملة من دون أن يكون لها ارتباط حقيقي بالمبررات والادعاءات التي ترافقها، وهو ما أكدته تقارير وتحليلات لبنانية ودولية كثيرة بين خلاصاتها الأبرز، أن اللاجئين السوريين «يدفعون ثمن فشل السياسة الداخلية في لبنان».

ولم يكن لهذه الحملات أن تتم وتتفاعل من دون إحاطتها بأجواء الإثارة، التي تشمل تضخيم أرقام السوريين في لبنان، بفتح الباب لتقديرات بالملايين بدل اللجوء إلى الأرقام الرسمية، وجعل الكلام والتصرف فيها متاحاً للجميع وصولاً إلى أشخاص لا صفة لهم من دون مسؤولية أو محاسبة، مما أدى إلى اتهامات، بما فيها اتهامات جنائية من دون أي مستندات، وشن حملات تحريض عنصرية خلاصتها شيطنة السوريين، وارتكاب جرائم لا حصر لها، وكله مثبت في وثائق لبنانية ودولية.

ورغم أن الحملات تتضمن في جانب منها موقفاً من النظام السوري وأفعاله في لبنان طوال فترة وجوده هناك 1976-2005 وما بعدها، فإنها بالواقع تنصب بشكل أساسي ضد خصومه والهاربين منه، وبعض هؤلاء أو أقاربهم كانوا في عداد من عارض دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976، ودعموا ثورة الأرز 2005، وساندوا مطالب انسحاب الجيش السوري ومخابراته من لبنان، وشاركوا في صياغة وإصدار إعلان بيروت - دمشق عام 2006 الذي وقعه مئات من مثقفين وكتّاب وقادة رأي سوريين ولبنانيين من أجل تصحيح وقوننة العلاقات السورية - اللبنانية بدل سياسة الهيمنة والتبعية السائدة.

تتعلق هذه الملاحظات بالسوريين في لبنان بذات القدر الذي تتعلق فيه باللبنانيين الذين هم اليوم مثل السوريين ضحايا لمنظومة سيطرة سياسية عسكرية إقليمية، يديرها نظام «الملالي» في إيران، ويشكل النظامان الحاكمان في سوريا ولبنان الحيز الأهم فيها، مما يفرض ضرورة الانتباه إلى ألا يكون الضحايا ضد الضحايا، كما يبدو في الحملة ضد السوريين، بل أن يتوجه اللبنانيون نحو من عطّل الدولة وهمّشها، ومن دفعهم إلى الأزمة الاقتصادية والمعاشية المدمرة التي صاروا فيها، ومن عطّل القضاء عن متابعة جرائم بحجم دمار مرفأ بيروت ومسلسل الاغتيالات المأخوذ اليوم إلى تضليل مؤكد في حلقة باسكال سليمان، وضد من يستفرد بمصير لبنان واللعب فيه تحت ضرورات إيرانية، تعجز إيران عن القيام بها.

الطبيعي ألا يترك اللبنانيون معالجة ما سبق، ويغرقون في حملة ضد السوريين ليست سوى أداة تعمية وتضليل في رؤية الواقع اللبناني وسط حقيقة أن السوريين واللبنانيين باقون، والكوابيس الحالية في البلدين وإن طالت، فإنها لن تبقى إلى الأبد.