تشكل رواية "اللون العاشق.. محمود سعيد" للشاعر والروائي المصري أحمد فضل شبلول، الصادرة أخيرا عن دار الآن ناشرون وموزعون الاردن تاريخا فنيا وجماليا وإنسانيا لسيرة الفن التشكيلي، حيث ينسج الروائي قماشته الفنية من المجتمع السكندري المترع بأجواء الجمال الطبيعي، والذي يجئ كخلفية تتحرك عليها سيرة الفنان التشكيلي الرائد محمود سعيد مع لوحاته وألوانه وموديلاته وعلاقاته داخل وسطه القضائي والثقافي والسينمائي، وأيضا الأوساط الاجتماعية المختلفة حيث كان يلتقي بموديلاته. حيث تتشابك وتتداخل حكاياته مع لوحاته، مع الفنون العالمية ورموزها الكبار المؤثرين على المشهد المصري والعالمي والأجواء الإنسانية داخل المجتمع السكندري.
يجسد الروائي ثقافة الفنان محمود سعيد وفلسفته ورؤيته الفنية وأحاسيسه والمؤثرات التي ألقت بظلالها على ريشته وألوانه وشخصياته وعوالمه والتي انعكست واضحة في لوحاته وأحاديثه عن رموز الفن التشكيلي العالمي وشروحاته للوحاتهم الأشهر مثل الفنان الإيطالي جورجو بارباريللي والرسام الانجليزي جوشوا راينولدز والإيطالي أنطونيو جواردي ووليام هوجارث والإيطالي جيمس برادييه الأميركي إداورد هوبر وغيرهم، ويتكشف ذلك عبر أسلوب سردي مشوق تتجلى متعته مع قصص لوحاته، كلوحته "ذات الجدائل الذهبية"، ولوحة "الدراويش" التي رسمها بالألوان الزيتية عام 1929 ولوحة "الجزيرة السعيدة" التي رسمها عام 1927 وصور فيها الريف المصري، وشخصياتها مثل قصة الفتاة حاملة الجرّة التي رسمها عام والفتاة السمراء "ذات الرداء الأزرق" التي رسمها عام 1927، ولوحة "السابحات" التي رسمها عام 1934، وأخير النساء بطلات لوحته الشهيرة "جميلات بحري" التي تقوم عليهن الرواية، وهن من "بنات بحري" في الإسكندرية.

يلتقي الفنان أولا بإحداهن؛ "حلاوتهم" ابنة المعلم الجزار الصياد الشهير الذي أخذه البحر غيلة، والمطلقة من رجل لم يستطع القيام بواجباته الجنسية، وهي التي يقرر الفنان "لقد نذرت نفسي وألواني وخطوطي وفرشاتي وزوايا رؤيتي لهذا الجسد الذي سأخلق منه أجسادا متنوعة ووجوها معبرة، وإيماءات بارعة، سأجعله يجسد رحلة الجمال المصري ويختصر كل الرسوم والإشارات الموجودة على الأحجار والمسلات الفرعونية. سوف أدع مرآة التاريخ تنير لي درب المستقبل، فمعي سر الألوان الفرعونية التي تجسدت على شفاه ميريت، سأمنحها إلى شفاه حلاوتهم التي لا تعرف حساسية تلك الشفاه المكتنزة بعد".
المرأة الثانية تأتي في صحبة "حلاوتهم" في أول لقاء لها مع الفنان في الآتيليه الخاص به، وهي "ست الحسن" الصعيدية التي أحبت فغدر بها حبيبها فور فراره من قسوة والده إلى الإسكندرية، فتزوجت أخيه واشترطت عليه أن يسكن بها الإسكندرية.&
والمرأة الثالثة "جميلة" وهي ممثلة مسرح يلتقيها الفنان أثناء لقاء له مع أصدقائه المخرج محمد كريم والكاتب المسرحي توفيق الحكيم ومحمود عبدالوهاب في كازينو جروبي الشهير بوسط القاهرة، حيث كان الفنان قد صحب "حلاوتهم" و"ست الحسن" ليراهما المخرج محمد كريم إن كان يصلحان للعمل بالسينما. ونعرف من سياق الأحداث أيضا أن "جميلة" يهودية انفصلت عن زوجها لأنه قرر السفر إلى إسرائيل، وتعيش مع والدها، وتربطها علاقة مع ليليان أو ليلى مراد ابنة المغني والملحن إبراهيم زكي موردخاي.
إن هذا الثلاثي "حلاوتهم" و"ست الحسن" و"جميلة" يضاف إليهم "همام" أخو ست الحسن (وكان اسمها توحيدة قبل عيشها في الإسكندرية) وبطلات أخريات للوحاته ثم وكيلة الفنانين في لندن وباريس تقوم عليهم الأحداث البارزة داخل سيرة الفنان دون أن يؤثر ذلك على النسيج العام للرواية المشغولة في جوهرها بحوار الفن والفنان مع عالمه التشكيلي، ولكن كان لا بد من عنصر التشويق في الرواية، ومن ثم خلق علاقات حب وخيانة وجريمتي قتل، الأولى لحسان حبيب ست الحسن الأول، وثانيا لحلاوتهم ويكون الفنان متابعا لها.&
بذل الروائي جهدا كبيرا في تتبع مسيرة الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية، وتعميق الأبعاد الإنسانية للشخصيات محور سيرة الفنان، فهناك الكثير من التفاصيل والأحداث المهمة الكاشفة عن مصر في تلك الفترة، والتي تتجلى في حواراته سواء مع ذاته وفنه أو شخصياته، وفي لقاءاته وأحاديثه مع أصدقائه مثل المخرج محمد كريم أو المسرحي توفيق الحكيم أو الفنانة ليلى مراد، أو القاضي محمود عبدالوهاب زميله في وزارة الحقانية. أو في المقال الذي كتبه الشاعر والناقد أحمد راسم عن محمود سعيد، ومن خلاله نكتشف عمق الثقافة الفنية التشكيلية وعمق المتابعة لدى المثقفين الذين يمثلهم أحمد راسم، حيث لم يكن الفنان كاتبا أو مخرجا أو مغنيا أو مسرحيا منفصلا عن تجليات اللوحة التشكيلية سواء للفنان المصري أو الأجنبي، أو وصفه لليوم الذي شهد رفع الستار عن تمثال نهضة مصر للفنان محمود مختار في ميدان باب الحديد، وما يمثله التمثال من جمال وعمق فنيين.&
إننا في الرواية نعيش حقبة مهمة لولادة مصر الليبرالية، مصر الناهضة المتعددة العلاقات مع الفنون والثقافات والحضارات وكيف هي انعكس ذلك على مختلف الأوساط العليا والشعبية بقيم إنسانية راقية بعيدة عن التعصب والتشدد، وبقدر ما يكشف علاقات الطبقة العليا بالفن والثقافة يؤكد أن الطبقة الدنيا من الصعيد أو بحري تمتلك نفس الشغف وتتابع بنفس الحس، فها هي الإسكندرية مولعة بالفنون من فن تشكيلي ومسرح وغناء وسينما، وتشكل ملتقى لكل فناني مصر من كل الأجناس الفنية فهي لا تستقبل فقط الفنانين الأجانب ولا تحتضن هؤلاء الأجانب المقيمين بها، بل إنها أيضا تحتفي بأبنائها وبالقادمين من صعيد مصر كـ "ست الحسن" التي تحب الغناء والسينما وأخيها همام لاعب الكرة الموهوب والقارئ الجيد المتابع للحراك الثقافي والفني والمحبة للغناء والفن، "غير أنني أتذكر الآن أنه في عام 1915 كان يجتمع في صباح أيام الآحاد، هنا في الإسكندرية، جماعة من الشبان المولعين بالرسم والتصوير في محل المصور الشهير زانييري الذي كان يقطن آنذاك فوق استوديو "البان" ليتعرفوا على الرسم تحت إشرافه، وكان من بين هؤلاء القاضي هيريوريس والمصور سباستي وشريف صبري ومحمود سعيد، وغيرهم، حيث نشأت الفنون الجميلة في الإسكندرية بشكل مستقل عن القاهرة، بفضل ما أحدثته الجالية الإيطالية في بداية القرن العشرين من تأسيس لقسم ليلي ملحق بمدارسها بباب سدرة لتعليم الرسم والنحت بشكل مجاني.&
وفتح المصورون الأجانب مراسمهم لتعليم الهواة تصوير مشاهد من الحياة في الإسكندرية، إضافة إلى المشاهد الطبيعية، ومن بين هؤلاء المصورين المصور اليوناني قسطنطين زوغرافوس، والفنان الإيطالي تشيفليني وجلفاني وأروتيرو زانييري الذي تتلمذ على يديه عدد كبير من فناني مصر الرواد".

مع تتابع الأحداث نتعرف على مزيد من الشخصيات ونصل إلى اللقطة التي شكّل منها سعيد لوحته "جميلات الإسكندرية" كيف التقطتها عين الفنان "انتقلنا الى رصيف البحر، وبعد أن سرنا خطوات طلبت من الثلاثي حلاوتهم وست الحسن وجميلة أن يعطين ظهرهن للبحر، ونزلت أنا أسفل الرصيف، وطلبت منهن أن يمشين تجاهي، وطلبت من كريم وهمام أن يبتعدا قليلا عن المشهد. فهم كريم ما أرمي إليه، في حين علت الدهشة وجه همام. التقطت الصورة بحدقتي عيني أثناء إقبالهن عليَّ تتوسطهن حلاوتهم كما همست لها أن تكون في المنتصف. رسخت الصورة في تلافيف دماغي، وودت لو استطعت أن أقوم بالرسم الآن".
تتواصل سيرة الفنان وهي السيرة الثرية حيث يصحبنا الروائي إلى جولة الفنان بباريس ولندن، ليجول بنا في متاحفهما كاشفا عن أشهر اللوحات والفنانين، ويلتقي فيما يتلقي بالفنان بيكاسو، وأردياديني وكيلة فنانين في لندن وباريس، التي اكتشف في صالتها لوحات له، وأيضا التي طلبت منه رسمها عارية، لنعيش أجواء مختلفة عن تلك التي كانت تصاحبه في مرسمه بالإسكندرية، وأثناء انشغاله برسمها يدخل عليهما سلفادور دالي. لكن سرقة لوحاته تقض مضجعه حتى يعود إلى الإسكندرية حيث يبدأ التحقيق في الأمر، وما ينتهي منه تقع جريمة قتل "حلاوتهم".&
تشوش الجريمة على حواس الفنان، ليكشف لنا الروائي عن جانب آخر في فنانه أنه شاعر عاشق لرامبو وبودلير وشوقي وغيرهم، وأن للشعر تأثيرا عليه وعلى لوحاته، حتى لتختتم السيرة برثاء لـ "حلاوتهم": أنا فعلا يرهقني الآن عمق السماء يا بودلير، وأريد أن استريح من هذا العناء، بعد أن تشوشت حواسي تلك الليلة، فليرحمك الله يا حلاوتهم. ليس هناك فرق بين دماء وماء، بين طعن بالسكين وموت بالداء، وليس كل جسد جميل أو مثير يصلح للعمل كموديل، ولكنكِ جمعتِ بين هذا وذاك، فكنت شريكتي في اللوحة التي ستخلدك، فليرحمك الله.
رسمتُك بين خطوطِ يدي&
وفوق ظلالِ الشراع
فكنتِ البحارَ وكنتُ الصراع
تمرُّ العواصفُ بيني وبينكْ
عدا الموت يهوى الجمال الذي يحتويك
فلا راد للموتِ إذ يصطفيكِ.
&لكن الفنان لا يفرط في انجاز لوحته "بنات بحري" أو "جميلات بحري" إذ يرى أنها "ستكون اللوحة النواة التي أنطلق منها لآفاق مصرية أخرى في القاهرة ومطروح والمنصورة وأسوان وسيناء، وربما أيضا آفاق عربية في بيروت وبغداد وتونس وفاس ومراكش، وسأصل بها إلى آفاق عالمية في باريس ولندن وروما واسطنبول ومدريد ونيويورك. لا بد أن أبدأ، فلتذهب حلاوتهم إلى الجحيم، ولتذهب ست الحسن إلى الصعيد، وتجلس باكية على زوجها بجوار النخلة التي شهدت ميلاد حبها الفاشل، ولتذهب جميلة إلى أحلامها السينمائية المحطمة على صوتها الرجولي الخشن، ولأقبع أنا هنا وحدي في مرسمي بشارع سعد زغلول منطلقا إلى العالمية بألواني وفرشاتي وخطوطي وظلالي ولمساتي ورؤاي الفنية وتاريخي الكوزموبوليتاني الممتد منذ ما قبل الميلاد وحتى اللحظة التي أكتب فيها الآن".
لم يغفل الروائي حواس فنانه ومشاعره ورؤاه تجاه أبطال وبطلات لوحاته خاصة أنه رسم الكثير من الأجساد العارية أو حتى تلك المحتشمة أو تتبعها في المجتمع السكندري أو في المجتمع الأوروبي وشغف بتفاصيلها، وكشف عن ذلك تارة بالتلميح إلى إقامته علاقة مع "حلاوتهم" أو أحاسيسه نحو "ست الحسن" أو كما كشف الفنان نفسه عند حديثه عن بعض بطلات لوحاته كـ "حميدة"؛ "كنت أشم الدهن الموزع في جسد الموديل التي أرسمها، وخاصة دهن حميدة، التي كانت نسب الدهن عندها تقترب من نسب الدهن في تماثيل رودان. كان جسد حلاوتهم أشبه بجسد حميدة، حيث تكامل علاقة الصدر بالأرداف بالأذرع بالأرجل، كانت أردافها شبيهة بالكمثرى، بينما أرداف المرأة الأوروبية شبيهة بالتفاحة، وهو ما أزعج الرسام والنحات الفرنسي ديجا كثيرا لأنه يعتقد أن ذلك تشويه للجسد الأنثوي".
الجهد الذي بذله الروائي أحمد فضل شبلول في العمل ليس مقصورا على الإحاطة بالزمان والمكان ومجريات الأمور في الواقع الاجتماعي لشخصيات العمل وفي مقدمتها بطله الفنان محمود سعيد الذي تتمحور حوله هذه الشخصيات باعتباره صاحب السيرة وراويها، ولكن أيضا في تمكنه من تقديم عمل سلس ممتع ومشوق بعيد عن أي تعقيدات تخص الشكل أو المضمون، فهو لم يحاول خداع قارئه بالتحليل للدخول على سيرة الفنان، بل جعل فنانه هو صاحب سيرته.